فطر الكمأة السوداء في ورطة!

4 دقائق
هل فطر الكمأة واقع فعلاً في ورطة؟ مصدر الصورة: Depositphotos

لا ينسى العالم بول توماس المرة الأولى التي فتح فيها طرداً يحتوي فطر الكمأة كان قد طلبه من فرنسا، وذلك بعد فشل محاولاته في البحث عن هذه الثمار اللذيذة في المملكة المتحدة. ويقول توماس "بمجرد أن فتحت الطرد، ملأت رائحة الكمأة اللذيذة منزلي. وعندما وضعتها في الثلاجة، أصبح كل شيء فيها بطعم الكمأة! لقد أصبحتُ مدمناً عليها!".

لم يحصل توماس على كفايته من هذا النبات الفطري بشع المنظر لكن ذا النكهة المكثفة اللذيذة. بل شرع في زراعته أيضاً. وكان يطهو طعامه مضيفاً له هذه الكمأة. بل حتى أنه قدم مساعدته لتنظيم مهرجان الكمأة السنوي في وادي نابا بالولايات المتحدة الأمريكية. كان توماس، وهو باحث أكاديمي يعمل في قسم العلوم الطبيعية في جامعة ستيرلنغ، يدرس فطر الكمأة منذ وقت طويل يعود إلى أوائل الألفينات. ومما أرعبه بشأن هذا الحقل البحثي، أن دراسته الأخيرة تشير إلى أن هذا الفطر اللذيذ غالي الثمن، محبوب خبراء تذوّق الطعام -لا سيما النوع المسمى علمياً بتوبر ميلانوسبوروم  (Tuber melanosporum)، وهو نوع الكمأة السوداء- من الوارد أن يختفي تماماً من جنوب أوروبا بنهاية هذا القرن. أما السبب وراء ذلك، وكما هو الحال بالنسبة للكثير من الأطعمة اليوم، فيعود إلى التغير المناخي. حيث أن موجات الحرّ والجفاف وحرائق الغابات إلى جانب الآفات الزراعية والأوبئة تهدد بالقضاء على الكمأة.

أما بالنسبة لأولئك الذين لم يمتّعوا أذواقهم بالطعم اللذيذ المميز لثمرة الكمأة، فإليكم وصف أحد الذواقين الفرنسيين من القرن الثامن عشر، جان أنتيلم بريّا-سافارين بأن الكمأة هي "ألماسة المطبخ"، ولربما وصفها بذلك نظراً لطعمها الفائق المتعة وسعرها المرتفع للغاية. وبحسب الدراسة، يباع الرطل الواحد من فطر الكمأة السوداء المهدد بخطر التلاشي، في الغالب بسعر 600 دولار.

بهذا الصدد، يقول رئيس الطهاة السابق بالعاصمة واشنطن، كولن بوتس "صحيح أنها غالية الثمن، إلا أنها تستحق كل بنسٍ منها. لأن الرائحة والنكهة التي تحتويها هذه الثمار لا تضاهيها أي مكونات مطبخية أخرى". إن عالَماً دون فطر الكمأة، يواصل الطباخ بوتس كلامه "سيكون وبالاً على المطابخ والمطاعم، لأننا سنفقد معها أحد أطيب وألذ ما تذوقه البشر إطلاقاً".

ومما يؤكد على كلام توماس بشأن توقع آثار تغير المناخ على هذا الفطر، المؤلف المشارك للدراسة، أولف بونتغن من جامعة كامبريدج، الذي أسفرت دراساته السابقة أن الجفاف يؤذي بشدة نمو فطر الكمأة. ومثال الجفاف، تعد موجات الحرّ مهلكة بالنسبة لفطر الكمأة، ويضيف توماس "أن مدة وتواتر وحدّة مثل هذه الأحوال الجوية في تزايد وليست في تراجع بسبب التغير المناخي.

لقد ركزنا في هذه الدراسة بشكل خاص على درجات حرارة فصل الصيف ومستوى هطول الامطار، واكتشفنا أنه بسبب زيادة الأولى ونقص الثانية، سينخفض إنتاج فطر الكمأة. يبدأ فطر الكمأة في النمو في أواخر فصل الشتاء وينمو ببطء خلال أشهر فصل الصيف قبل أن ينضج في فصل الشتاء المقبل. ولذلك، يعدّ الجفاف الذي يحصل في أشهر فصل الصيف عاملاً معرقلاً لنمو فطر الكمأة". يذكر أن الدراسة التي ألفها توماس وزميله نُشرت في مجلة علوم البيئة الكلية  (Science of the Total Environment).

قام الباحثان بجمع البيانات التي تعود لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن والتي تتمحور حول إنتاج فطر الكمأة في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وقارنوها بالبيانات الخاصة بالحرارة ومنسوب هطول الأمطار وذلك لتوقع الأثر المستقبلي للتغير المناخي على إنتاج الكمأة. بهذا الصدد، يقول توماس "كانت النتائج مفاجئة جداً لنا من ناحية الشدة وسرعة الأثر المتوقع. حيث تضم أوروبا مواقع لزراعة الكمأة في إسبانيا وفرنسا، ونحن نعرف الآن أن هذه الأماكن ستمرّ بوقت عصيب في المستقبل". يمكن للتغير المناخي أن يكون له أثر مدمر على إنتاج الكمأة السوداء النامية في منطقة بيريغو الفرنسية، على سبيل المثال، لأن هذا الفطر حساس بشكل خاص لدرجات الحرارة والجفاف الذي تمر به المنطقة أواخر فصل الربيع والصيف.

مع ذلك يقول توماس أنه من الوارد أن تبقى هناك مناطق ذات طقس مناسب بما يكفي لنمو الكمأة السوداء. ويضيف توماس أنه "يمكن عكس بعض آثار التغير المناخي من خلال الريّ، إلا أن نماذجنا الحسابية للأسف تظهر أن المياه في تناقص مستمر...ولذلك من المستبعد أن ينجح اللجوء للريّ في إنقاذ هذا القطاع الزراعي". الأدهى أن الكمأة السوداء ليست الوحيدة المعرضة لخطر آثار التغير المناخي. فالعلماء يدرسون الآن حالة فطر كمأة الصيف، حيث يشير توماس بهذا الصدد إلى أن "المؤشرات الأولية تظهر أنها حساسة جداً للتغيرات في الرطوبة ودرجة الحرارة".

طوال سنوات، كان جامعو الكمأة يستخدمون الخنازير الأليفة والبرية لتشمم أماكن هذه الثمار اللذيذة والغالية، حيث كانت تنمو تحت الأرض في الغابات. أما اليوم، فإن ما نسبته 90 بالمئة من الكمأة التي تنتجها فرنسا يتم زراعتها، ووفقاً لتوماس، تُحصد هذه الثمار بالاستعانة بكلاب مدربة بدل الخنازير البرية. ويقول توماس "أن هذه الطريقة بدأ استخدامها في السبعينات. حينها كان إنتاج الكمأة في أوروبا يشهد انخفاضاً نظراً لتغير استخدام الأراضي وتناقص الموائل الطبيعية، لكن الزراعة تمكنت من صدّ هذا الانخفاض".

مع ذلك، لا يزال فطر الكمأة غالي الثمن جداً لأنه نادر للغاية. وفي الوقت الحالي، يقوم المزارعون الفرنسيون كل عام بزراعة 400,000 شجرة كمأة، حيث يتم تطعيم الشجرة بفطور الكمأة، "إلا أن هذه الطريقة لا تكفي إلا لجعل محاصيل إنتاجهم من الكمأة مستقرة نسبياً. حيث يظهر تغيّر سوق العرض والطلب على فطر الكمأة أكثر للعيان عندما تمر أوروبا بسنوات غير عادية من الجفاف والحرّ، عندئذٍ يعاني الإنتاج، ونتيجة لذلك ترتفع أسعارها بشكل جنوني. فعلى سبيل المثال، ارتفعت أسعار فطر الكمأة السوداء سنة 2004، إلى ضعف ما هي عليه بسبب انخفاض مستويات إنتاجها".

ولأن البشر يستطيعون زراعة الكمأة الآن، فإن المزارعين في أستراليا، ونيوزيلندا، وأمريكا الجنوبية، وجنوب أفريقيا، والولايات المتحدة اقتحموا هذا القطاع الزراعي. بهذا الصدد، يقول توماس، الذي يشغل أيضاً منصب كبير العلماء لصالح شركة الكمأة الأمريكية  (American Truffle Company)، "أن إنتاج الولايات المتحدة من الكمأة لا زال صغيراً جداً، لكن الخبراء يتوقعون ارتفاعه نظراً لزيادة عدد المزارع الخاصة بها". في الوقت الراهن، ينتج المزارعون في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا ما نسبته حوالي 95 من المحصول العالميّ للكمأة، يقول توماس، الأمر الذي يعادل مئات الملايين من الدولارات من الناحية الاقتصادية.

لا تعتبر الكمأة محصولاً زراعياً يولّد مداخيل مالية كبيرة وحسب. بل تعد أيضاً مصدراً ثرياً من الإلهام في ثقافة المجتمعات الإنسانية. حيث يقول توماس أن هناك متاحف للكمأة، وأسواقاً للكمأة، وجمعيات وأعراف وتقاليد وطقوس تتمحور وتنمو حول هذه الثمار اللذيذة، على سبيل المثال، أخوية الكمأة السوداء، التي يقع مقرها في فرنسا، وقداساً في كنائس قرية ريشيرانش الفرنسية، تكريماً للقديس أنتوني، القديس الراعي لمُزارعي الكمأة. وكما لا يخفى، يتربع هذا الفطر على عرش قلوب كل من المزارعين وخبراء التذوق على حدّ سواء.

بهذا الصدد، يقول كبير الطهاة بوتس "لا عجب في ذلك إذ أن الكمأة ترتقي بأطباق الطعام إلى مستوى الكمال. بل أن حتى لعابي يسيل بمجرد التفكير فيها!".

مارلين سيمونز، كاتبة لدى مؤسسة نيكسوس ميديا، وهي وكالة أنباء مرخّصة تغطي أخبار المناخ والطاقة والسياسة، الفنون والثقافة.

المحتوى محمي