تُعتبر الشوارع المرصوفة بالأسفلت أسوأ عدوٍ لسكان المدن في الصيف، لأنها تحتفظ بحرارة الشمس الحارقة بداخلها. جديرٌ بالذكر أن درجة حرارة المدن ترتفع بصورتين: الأولى، عن طريق امتصاص أشعة الشمس الساقطة عليها، والاحتفاظ بحرارتها، مما يؤدي لزيادة درجة الحرارة في النهار، أما الصورة الثانية فتحدث نتيجة إطلاق هذه الحرارة المحتجزة مع حلول الظلام، فتؤدي إلى منع درجات الحرارة الأقل من تلطيف الأجواء في الليل. هذا ما يعرف بتأثير الجزر الحرارية الحضرية. إنها مشكلة قائمة منذ أمدٍ طويل، خاصةً في المدن الأكبر حجماً التي يكثر بها الرصف الأسفلتي، ومع قيام الاحتباس الحراري بتسخين الكوكب أكثر، تزيد المشكلة وضوحاً.
لهذا بدأ مخططو المدن في البحث عن طرقٍ لتخفيف أثر الجزر الحرارية، وتصدرت زراعة الأشجار قائمة الطرق المقترحة. فالأشجار بإمكانها أن تلطف من درجة حرارة الهواء المحيط بها، بحجب ضوء الشمس من ناحية، ومن ناحية أخرى بالاعتماد على تبخر المياه من أوراق الشجر.
ما عدد الأشجار التي نحتاج إليها؟
قد يبدو هذا السؤال ساذجاً، أو لا معنى له فالإجابة بسيطةٌ: المزيد من الأشجار دائماً ما يكون أفضل. أما إذا كنت مخططاً حضرياً، فإن هذا السؤال يبدو مهماً جداً.
من الضروري فهم العلاقة بين عدد الأشجار في منطقة معينة، وإجمالي ما تقدمه من تبريد. لذا قرر باحثون من جامعة ويسكونسن، البدء بعمل قياسات. وقاموا بربط بعض المُستشعرات على دراجة، وطلبوا من أحد الأشخاص قيادتها في جولة في شوارع مدينة ماديسون؛ لقياس درجات الحرارة على فتراتٍ منتظمة، بحيث يمر خطّ سيره بأحياء ذات مستوياتٍ متفاوتةٍ من التغطية الشجرية. وقاموا بنشر نتائجهم في دورية وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم (PNAS).
توصلت الدراسة إلى نتائج مشجعة إلى حدٍ ما، فعلى مستوى المربعات السكنية، احتاج الأمر لتظليل 40% على الأقل من مساحة الشوارع لمواجهة تأثير ارتفاع درجة حرارة الأسفلت. كما أنه من الواضح أن نشر المزيد من الظل، يؤدي إلى إحداث تبريدٍ أكبر، وحتى بالاكتفاء بتظليل أقل من نصف مساحة الشوارع، يمكن للمدن أن تجني فوائد حقيقية.
بالطبع، هذا مجرد رقم إجمالي. حيث تعتمد الدرجة التي تساعد بها الأشجار في تبريد الهواء على نسبة الأرض المغطاة بالأسطح المُصمتة غير المُنفذة. فوجود المزيد من المساحات المرصوفة يحد من تأثير الأشجار الملطف للجو.
في الواقع يبدو هذان المتغيران متداخلين بشدة. فالأحياء السكنية التي لديها المزيد من المساحات المظللة بالأشجار، من المرجح أن يكون لديها أيضاً مساحات أقل من الأسطح المُصمتة كالطرق الإسفلتية. والنتيجة وجود ارتباط مُعقّد بينهما، وظهور تفاوتٍ كبيرٍ في عدد الأشجار اللازمة لـتبريد الشارع.
على سبيل المثال، عند تظليل ثلاثة أرباع منطقةٍ مساحتُها المرصوفة قليلةٌ، يمكن أن نرى انخفاضاً في درجة الحرارة، قد يتجاوز 2.5 درجةً مئوية. لكن هذا المستوى لا يمكن تحقيقه في الأحياء التي رُصفت أغلب مساحتها بالأسفلت، ونلاحظ في هذه الحالة أن معظم التأثيرات تقل، حيث يتراوح التغير في درجة الحرارة بين 0.5 إلى 1 درجة مئوية.
لا يعني ذلك أن إضافة المزيد من الأشجار لا أهمية له. ففي أكثر أيام الصيف سخونة، يزيد التأثير الذي يمكن ملاحظته في مختلف الأحياء، حيث تُسبب الأشجار انخفاض درجة الحرارة بمقدارٍ يتراوح بين 0.2 إلى 0.6 درجةً مئوية، وما يزيد من أهمية هذا التأثير أنه من المرجح أن يعاني الناس أكثر في تلك الأيام من مشاكل صحيةٍ بسبب الحرارة. بالإضافة إلى ذلك، أدت زراعة الأشجار إلى تأثيرٍ أعلى نسبياً مما تؤدي إليه محاولة تقليل نسبة الأسطح المُصمتة في الشوارع. ولأنه من غير المحتمل أن يبدأ مخططو المدن في إزالة الأسفلت من شوارع مدنهم، فإن أفضل طريقة هي إضافة غطاء من الظل للتخفيف من أثر الحرارة.
فلنبدأ بالمناطق الأكثر احتياجاً للشجر
أفضل شيء يمكن حدوثه هو إزالة أكبر قدر ممكن من المساحات المرصوفة مع زراعة المزيد من الأشجار. وعوضاً عن تمني عالم مثالي، ينصح الباحثون مخططي المدن بالتركيز على المناطق التي يقل نصيبها الحالي من الظل، بدلاً من محاولة مساعدة تلك المناطق التي تحظى بنصيب منه بالفعل.
وفي الوقت الذي نكافح فيه التغير المناخي، يرى الباحثون ضرورة وجود وعي بالتفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والعرقية التي تعاني منها المدن بالفعل. فإن المناطق ذات الدخل المنخفض التي يقطن بها نسب مرتفعة من الأقليات، تُعاني بشكلٍ عام من مشكلة حقيقية في نقص المساحات الخضراء. في حين تتمتع الأحياء التي يقطنها ذوي الدخل المرتفع بغطاءٍ نباتيٍ أكبر (فضلاً عن امتلاكهم المال اللازم لتحمل تكلفة استخدام مكيفات الهواء). فإذا كنا نريد حقاً أن نساعد الناس فعلينا، أن نزرع الأشجار في المناطق الأكثر احتياجاً لها.
وعلى الرغم من أن الارقام قد تبدو صغيرة، فإن هناك تأثيرات حقيقيةٌ بالفعل في تقليل درجة الحرارة. ويشير الباحثون إلى أن تغطية المدينة بأكبر قدرٍ ممكن من المساحات الخضراء هي أفضل استراتيجية، يمكن اتباعها. إن مجرد زراعة المزيد من الأشجار في مربع سكني واحد يمكنها إحداث فارقٍ ملموس.
تُظلل الأشجار حدائق منازلنا، والشوارع التي نمشي فيها، وبإمكان ظلها أن يمتد حتى إلى داخل بيوتنا. فزيادة بعض الاشجار، وتوزيعها بشكل مدروس، قادرٌ على إحداث الفارق.