يعرف العلماء أنه خلال القرن الماضي ارتفع منسوب مياه البحر في بعض الأماكن أكثر من غيرها. فقد ارتفع بشكل أسرع على طول الولايات الأميركية الوسطى على المحيط الأطلسي، خصوصاً قرب رأس هاتيراس وخليج تشيسابيك، مقارنة بخليج ماين شمالاً والمناطق على طول الخليج الأطلسي الجنوبي. ولكن لماذا؟
يعمل كريس بيكوك كعالم مساعد في معهد وودز هول للمسح المحيطي، وهو المؤلف الرئيسي لبحث جديد نشر مؤخراً في مجلة Nature حول أسباب التباينات في ارتفاع مستوى سطح البحر على الساحل الشرقي، ويقول: "يؤثر ارتفاع مستوى سطح البحر علينا جميعاً. لقد بدأ سكان الساحل بالشعور بهذا التأثير، وسيشعرون به بشكل أكثر وضوحاً في المستقبل. ولكن التأثيرات ستصيب حتى من لا يعيشون على الساحل. ففي المستقبل، بعد عدة قرون، قد يرتفع سطح البحر لعدة أمتار على المستوى العالمي. وحتى إذا لم تتغير طبيعة العواصف في المستقبل، فإن ارتفاع الخط القاعدي لمستوى سطح البحر سيفاقم من آثار العواصف الساحلية. سيرتفع البحر، وسيصبح السيء أكثر سوءاً".
يعزو بيكوك وزملاؤه هذ التفاوت في ارتفاع مستوى سطح البحر في الشرق إلى ظاهرة تعرف باسم الارتداد بعد الجليدي.
منذ آلاف السنين، كانت صفائح جليدية ضخمة تغطي مساحات واسعة من أميركا الشمالية، بما في ذلك أجزاء كبيرة من كندا وشمال شرق الولايات المتحدة. ونظراً لضخامة وثقل الصفائح الجليدية، كانت تثقل على قشرة الأرض، وتجعلها تغوص مباشرة إلى الأسفل. وكما يشرح بيكوك: "ولهذا، فإن الأماكن التي كانت قرب الحواف أو مجاورة للصفائح الجليدية ارتفعت إلى الأعلى. يمكنك أن تشبه الوضع بأكمله بلعبة التوازن في حدائق الأطفال. إنه ليس بالتشبيه المثالي، ولكنه يكفي للتعبير عن الفكرة الأساسية: عندما ينخفض أحد الطرفين، يرتفع الآخر. هذا ما حدث منذ آلاف السنين".
خلال ذلك الوقت، بدأت الصفائح الجليدية بالذوبان، وخف وزنها. وبالتالي، أصبح بإمكان المناطق المُثقلة سابقاً أن تسترخي وترتفع إلى الأعلى، على حين أن المناطق التي كانت قد ارتفعت أو انتفخت عند الحواف هبطت إلى الأسفل. يقول بيكوك: "تغير اتجاه لعبة التوازن. فعندما يتركها أحد اللاعبين، يرتفع الطرف الذي كان جالساً عليه، على حين أن الطرف الآخر هو الذي ينخفض".
على الرغم من أن الصفائح الجليدية اختفت منذ 7,000 سنة، فإن تأرجح الارتداد بعد الجليدي مستمر حتى اليوم، كما يقول بيكوك: "نظراً للاستجابة التدريجية للأرض –والتي ما تزال بشكل ما تحت آثار العصر الجليدي الأخير- فإن هذا التأرجح المعاكس ما زال مستمراً حتى اليوم، مع ارتفاع الأرض في بعض الأماكن وانخفاضها في أماكن أخرى، وبسبب هذه الحركة الأرضية التي تتغير بتغير الموضع، ينتج هذا التأثير عن تفاوت ارتفاع مستوى سطح البحر باختلاف الأماكن على طول الساحل الشرقي".
على الرغم من أن الاختلافات على طول الساحل الشرقي تعود بشكل أساسي إلى الارتداد بعد الجليدي الطبيعي، يقول بيكوك أن الآثار المتفاقمة للتغير المناخي "محسوسة في كل مكان على طول الساحل الشرقي وبنفس الدرجة. لقد بدأت المحيطات تصبح أكثر دفئاً، وتتمدد حرارياً، وبدأ الجليد البري بالذوبان متحولاً إلى مياه تصب في المحيطات، ويؤدي كلا العاملين إلى ارتفاع مستوى سطح البحر. نعلم أن وتيرة ارتفاع مستوى سطح البحر خلال القرن الماضي كانت أعلى من أي وقت آخر خلال الألفيات الثلاثة الأخيرة، وأنه لم يكن ليحدث هذا لولا التأثير البشري، كما أننا نعرف أن وتيرة ارتفاع مستوى سطح البحر كانت تتسارع باطراد، حتى على مدى السنوات الخمس والعشرين الأخيرة وحسب. تنبئنا هذه الأدلة وغيرها أن ما حصل في الماضي القريب غير اعتيادي وغير مألوف. وبناء على أفضل فهم للحقائق العلمية، لا يمكن إلا أن نتوقع أن الأمور ستستمر بالتسارع، وأن مشاكل المناطق الساحلية ستتفاقم بدون توقف".
لمحاولة كشف سبب ارتفاع مستويات سطح البحر بشكل أسرع خلال المائة سنة الماضية في مناطق مثل محطة نورفولك البحرية في فرجينيا وأوتر بانكس في نورث كارولينا، قام بيكوك وفريقه بجمع القياسات المدية لمستويات سطح البحر، وبيانات الأقمار الاصطناعية لنظام تحديد المواقع العالمي التي تظهر امتداد حركة صعود وهبوط الأرض مع الزمن، والأحفوريات في الرواسب من المستنقعات الملحية، وهي سجل لمستويات سطح البحر السابقة. وبجمع هذه البيانات مع نماذج جيوفيزيائية معقدة، وهو ما لم يحدث من قبل وفقاً للفريق، تمكنوا من الحصول على تفسير أكثر شمولية لتغيرات مستوى سطح البحر منذ العام 1900.
وجد الباحثون أن الارتداد بعد الجليدي كان السبب الأكبر للتباينات في ارتفاع مستويات سطح البحر على طول الساحل الشرقي، ولكن حتى بعد إلغاء هذا العامل، كما يقول بيكوك، فإن "مستويات سطح البحر كانت ترتفع بثبات من ماين وصولاً إلى فلوريدا جنوباً. وقد يعود هذا إلى الذوبان الأخير للكتل والصفائح الجليدية، واستخراج المياه الجوفية وبناء السدود على مدى القرن المنصرم".
يتابع بيكوك قائلاً: "إن ارتفاع مستوى سطح البحر مشكلة معقدة، ويمكن أن تؤدي العديد من العوامل إلى هذه النتيجة، مثل الأثر الناتج عن اجتماع العمليات الجيولوجية كالارتداد بعد الجليدي مع مشكلة التغير المناخي وآثارها على الساحل. من الأشياء المفيدة في هذه الدراسة أننا تمكنا من تحديد جزء من المشكلة على الساحل الشرقي. وبما أن هذه المشكلة تمتد على فترات زمنية طويلة للغاية، يمكننا أن نكون واثقين من دقة توقعاتنا لهذا المعامل لدى حساب ارتفاع مستوى سطح البحر لعدة قرون في المستقبل. ولكن بالطبع، هذا لا يتعلق بأي جزء آخر من المشكلة، مثل استمرار ذوبان الجليد وارتفاع حرارة المحيطات".
تعتبر هذه الدراسة محاولة لدعم المعرفة العلمية حول العوامل المتعلقة بهذه المسألة، وهو ما يجب أن "يساعدنا على فهم كيفية وأسباب ارتفاع مستوى سطح البحر في المستقبل، في مكان معين، وضمن أفق زمني معين. وعلى الرغم من أن هذه الدراسات لا تستطيع أن تمنع تمدد المياه، فإنها قد تعطينا أفضل ما يمكن من المعلومات لمساعدتنا على توقع ما سيحدث للسواحل"، وفقاً لبيكوك.
وعلى الرغم من أن العوامل غير المؤكدة ما تزال موجودة، فإن الوضع العام لا يبشر بالخير مطلقاً. يقول بيكوك: "ما زلنا نحاول فهم مدى وسرعة ارتفاع مستويات سطح البحر في المستقبل. ولكن لا نتوقع أية أخبار جيدة، فلا يوجد أي سيناريو ممكن في الطبيعة حالياً قد يؤدي إلى انخفاض مستويات سطح البحر عالمياً. ستستمر بالارتفاع بدون شك، ومن المرجح أن ذلك سيحدث بوتيرة متسارعة، على امتداد عقود وقرون كاملة في المستقبل".