كم عمر الأرض؟ قد تبدو الإجابة عن هذا السؤال سهلة. التقدير النموذجي لعمر كوكبنا يبلغ نحو 4.5 مليار سنة. ولكن مع تعمق أبحاث العلماء أكثر، زاد عدم اليقين حول عمر كوكبنا. قد تؤدي الفروق الدقيقة حول كيفية نشأة الأرض إلى تغير النظرة حول عمرها بمقدار 500 مليون سنة أو نحو ذلك.
يقول أستاذ الجيولوجيا ورئيس قسم علوم الأرض والغلاف الجوي في جامعة هيوستن، توماس لابين: «من السهل إعطاء تقدير عام لعمر الأرض، ولكن بينما يحاول العلماء تحديد قياس أكثر دقة، تصبح المهمة أكثر تعقيداً نظراً للحاجة إلى التعامل مع تفاصيل دقيقة حول كيفية نشوء كوكبنا».
ويضيف لابين موضحاً: «عندما يولد المرء، فهذه لحظة زمنية يمكن تحديدها بسهولة، لكن تشكل الكواكب عملية تستغرق ملايين السنين». في الواقع، يتعين على علماء الفيزياء الفلكية وعلماء الكواكب والجيولوجيين تحديد نقطة محددة من الزمن يمكن اعتبارها لحظة ولادة الأرض لتحديد عمرها.
اقرأ أيضاً: القصة الكاملة لأول نفس أكسجين تستنشقه الأرض
متى "وُلدت" الأرض؟
كان الغاز والغبار يدوران في مدارٍ حول الشمس التي كانت لا تزال فتية منذ نحو 4.6 مليار سنة. وخلال ملايين السنين الأولى من عمر النظام الشمسي، تصادمت تلك الجزيئات واندمجت في صخور وكويكبات شكّلت البذور الأولى للكواكب. استمر تصادم تلك الصخور الفضائية واندماجها، وبعضها نما بشكلٍ أكبر وأكبر، ما أدى في النهاية إلى تشكلّ الكواكب والنظام الشمسي الذي نعرفه الآن.
لكن الكواكب ليست مجرد أكوام كبيرة من الصخور، إذ عندما تتشكل هذه الأجرام السماوية من خلال تراكم هذه المواد، تتمايز أيضاً إلى عدة طبقات: اللب والوشاح والقشرة (على الأقل في حالة الأرض والكواكب الأرضية الأخرى). يستغرق تراكم المواد وتمايزها إلى طبقات وقتاً طويلاً قد يمتد لعشرات ملايين السنين، وقد يعتبر البعض أن نقطة ما في تلك المرحلة من تكوين الأرض يمكن أن تكون بمثابة ولادته. لكن لابين يعتبر تراكم المواد بمثابة مرحلة "الحمل" للأرض، ثم جاءت الولادة مع حدث كارثي أدى إلى نشوء القمر.
وفقاً لفرضية الاصطدام العملاق المقبولة علمياً على نطاق واسع، اصطدمت الأرض الأولية خلال الفوضى التي كانت سائدة في الأيام الأولى لنظامنا الشمسي بجسم صغير آخر بحجم المريخ، ثم اندمج الحطام الناجم وشكّل القمر في مدار الأرض.
يعتقد لابين أن هذا الاصطدام أدى إلى "إعادة ضبط" المواد التي تتكون منها الأرض. ربما كان المحيط الصهاري السميك يغطي الأرض الأولية في ذلك الوقت، وعند حدوث الاصطدام القوي، اختلطت مواد كلا الجسمين معاً واندمجت وشكلت نظام الأرض-القمر الذي نعرفه اليوم. ويقول لابين إن الدليل على حدوث مثل "إعادة الضبط" هذه يتضح من تركيب الصخور الأرضية والقمرية التي تحتوي على أشكال متطابقة من الأوكسجين.
يقول لابين: «من المرجح أن الأرض الأولية قد تعرضت للدمار أو تغيّر تكوينها. أعتقد أن الأرض كانت مختلفة قبل تشكّل القمر عما نعرفه اليوم».
إذا كان حدث الاصطدام يمثل ولادة الأرض، سيتراوح عمر الأرض إذاً بين 4.4 و4.52 مليون سنة. مع ذلك، فإن تحديد عمرها بدقة يتطلب فحص الأدلة القديمة.
اقرأ أيضاً: حفريات النباتات: سجلات تحكي لمحة عن مناخ الأرض القديم ومستقبلنا
تحديد عمر محدد لكوكب الأرض
على غرار عمل المحققين الذين يبحثون عن أدلة للكشف عن جريمة قديمة، يجب على علماء الكواكب فحص الأدلة المتوفرة اليوم لفهم تاريخ الأرض المبكر. ومع ذلك، ونظراً للاضطرابات الكثيرة التي حدثت خلال تلك الفترة، بما في ذلك التغيرات التي طرأت على محيط الصهارة والتغيرات الجيولوجية الشديدة، فقد يكون من الصعب العثور على أدلة تدعم نتائجهم.
يوضح لابين أن إحدى طرق تحديد عمر الأرض هي النظر في أقدم الصخور على الأرض، والتي تشكلت مباشرةً بعد تصلب المحيط الصهاري وتطور سطح صلب للأرض. لذلك نظر العلماء في معدن الزركون -والذي يعتبر أقدم المعادن المعروفة- والمكتشف في مرتفعات "جاك" في غرب أستراليا.
لتحديد عمر بلورات الزركون، استخدم فريق من العلماء تكنولوجيا تُعرف بـ "التأريخ الإشعاعي" تعتمد على قياس كمية اليورانيوم التي تحتوي عليها البلورات. يتحلل عنصر اليورانيوم إلى عنصر الرصاص بمعدل معروف، وبذلك يمكن للعلماء حساب عمر المعدن بناءً على نسبة اليورانيوم إلى الرصاص في العينة، وقد كشفت هذه الطريقة أن عمر الزركون يبلغ 4.4 مليار سنة تقريباً.
تشير هذه الصخور إلى أن نظام الأرض- القمر يجب أن يكون قد تشكل في وقت ما قبل 4.4 مليار سنة لأن أي سجل صخري للأرض "كان سيُطمس بسبب الحدث الذي أدى لتشكل القمر"، كما يقول لابين. وبالتالي فإن عمر كوكب الأرض لا يقل عن 4.4 مليار سنة، ولكن إلى أي مدى يمكن أن يكون عمر الأرض أكبر؟ يقول لابين إن العلماء نظروا في مكان آخر، بما في ذلك القمر، للإجابة عن هذا السؤال.
الصخور الموجودة على القمر محفوظة بشكلٍ أفضل من الصخور الموجودة على الأرض، لأن القمر لا يمر بعمليات تكتونية يمكن أن تذيب سطحه وتغيره. هناك مصدران رئيسيان لهذه القرائن الصخرية: النيازك القمرية التي تسقط على الأرض وعينات الصخور التي تم جمعها مباشرةً من القمر خلال برنامج أبولو الذي قامت به وكالة ناسا.
مثل الأرض الأولية، كان القمر الصغير مغطى أيضاً بمحيط من الصهارة. ويمكن أن تنبئ عينات الصخور الأقدم المأخوذة من القمر بوقت تشكل قشرته. لذلك أجرى العلماء تأريخاً إشعاعياً لشظايا الزركون التي تم جمعها خلال مهمة أبولو 14 مع أخذ تأثير التعرض للإشعاعات الكونية بعين الاعتبار، وتوصلوا إلى أن قشرة القمر تصلبت منذ 4.51 مليار سنة تقريباً.
اقرأ أيضاً: لماذا يتباطأ دوران نواة الأرض الداخلية وهل هناك خطر على كوكبنا؟
ويقول لابين إنه من المرجح أن تكون هناك فترة زمنية فصلت بين وقت الاصطدام واندماج الأجسام وتبردها وتمايزها، لذلك هناك نافذة من عدم اليقين في التاريخ المقدر تُقدر بنحو 50 مليون سنة.
ويضيف لابين: «يمثل تحديد وقت الاصطدام تحدياً كبيراً»، ويقدّر أن نظام الأرض- القمر قد تشكل على الأرجح منذ 4.51 إلى 4.52 مليون سنة، لكن بعض العلماء يشيرون إلى أن الفرق الزمني المقدر قد يصل إلى 50 مليون سنة وفقاً لحساباتهم.
هناك طريقة أخرى لتضييق نطاق نافذة عدم اليقين هذه وهي النظر في الصخور التي كانت موجودة في الوقت الذي تشكلت فيه الأرض الأولية، إذ إن بعض الحطام الذي كان موجوداً حول الشمس الفتية لم يندمج كلياً في الكواكب والأقمار التي نراها اليوم، وبقي بعضها محفوظاً على حاله في الكويكبات والمذنبات.
تأتي هذه القرائن الزمنية للنظام الشمسي في بعض الأحيان على شكل نيازك تسقط على سطح كوكبنا، ويقول لابين إن أقدم نيزك فضائي معروف سقط على الأرض كان نيزك "عرق شاش 002" (Erg Chech 002)، ويُعتقد أنه جزء من قشرة نارية لكوكب أولي من النظام الشمسي المبكر، ويمكن أن توضح لنا دراسته كيف كانت الأرض في ذلك الوقت.
يقول لابين: «إذا تم تعريف "ولادة الأرض" على أنها وقت تشكل أول نواة للأرض الأولية أو وقت تشكل الكوكب الأولي الذي نما في النهاية من خلال تراكم المواد ليصبح الأرض الحالية، فربما يكون عمر الأرض 4.565 مليار سنة، أي مثل عمر شظايا نيزك "عرق شاش 002"، والتي يقول العلماء إنها تبلورت منذ ذلك الوقت».
هل يمكن تحسين قياس عمر الأرض؟
وفقاً للابين، فإن عدم اليقين بمقدار 50 مليون سنة حول وقت تشكل نظام الأرض- القمر كبير جداً عندما ينظر إليه البشر، لكنه في الواقع مقبول على النطاقات الزمنية الكوكبية التي تمتد إلى مليارات السنين.
ويوضح لابين: «كلما نظرنا أعمق في الماضي، تقل الدقة بسبب نقص المعلومات المتاحة لدينا. لقد كانت هناك الكثير من الأحداث خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً: كان هناك حدث تسبب في تشكل الحطام حول الشمس الفتية، ثم اندمجت تلك المواد في كواكب، ثم تبردت، وتمايزت إلى أجسام صخرية لها لب ووشاح وقشرة».
اقرأ أيضاً: محيط تحت القشرة الأرضية قد يكشف سر قدرة الأرض على إيواء الحياة
مع ذلك، لا يزال أمام العلماء الكثير من العمل الذي يتوجب عليهم القيام به. يقول لابين إن هناك فرصة دائماً لتحسين قياسات عمر الأرض، لا سيما أنه بات بمقدور الباحثين الحصول على عينات إضافية من القمر والنيازك والكويكبات.
على سبيل المثال، لا تزال عينات الصخور التي جمعتها مهمة "شانجي 5" الصينية من القمر قيد الدراسة، ومن المقرر أن يتم جمع عينات من الصخور القمرية في إطار برنامج أرتميس التابع لناسا. ويضيف لابين أن ناسا تتيح للعلماء دراسة مزيد من المواد التي تم جمعها خلال برنامج أبولو، ما يوفر للباحثين فرصة لدراسة صخور القمر القديمة بتقنيات جديدة.
إذا نجحت جهود الباحثين الحالية في العثور على عينات قمرية من أجزاء سطح القمر التي تبلورت في وقت أبكر من تلك التي دُرست سابقاً، فقد يتمكنون من التوصل إلى تقديراتٍ أكثر دقة لوقت ولادة القمر والأرض وفقاً للابين.