في شهري أغسطس/ آب وسبتمبر/ أيلول من عام 2018، دخل مئات المواطنين الذين يعيشون في منطقة كينتيرو-بوتشونكافي في وسط تشيلي وحولها إلى المستشفيات وعانوا من أعراض التسمم بالغاز. تبعد بلدتا كينتيرو وبوتشونكافي أقل من 6 كيلومترات عن منطقة تحتوي على 17 منشأة صناعية منها مصنع لصهر النحاس وتكريره ومحطة لتوليد الكهرباء تعمل بالفحم ومحطّة لتحميل النفط. اليوم، أبلغ نحو 50 ألف شخص من سكان تلك المنطقة بأنهم يعانون من الصداع والغثيان المزمنين، حتى في الفترات التي لا تنبعث سحب الغازات السامة من هذه المنشآت.
مناطق التضحية البيئية في تشيلي
تعتبر منطقة كينتيرو-بوتشونكافي أشهر مناطق التضحية البيئية الخمس في تشيلي. في هذه المناطق، تسبب إجراء عدد كبير من العمليات الصناعية غير المنظّمة لفترة طويلة من الزمن بآثار صحية سلبية على المواطنين الذين يعيشون حالياً فيها، والذين يبلغ عددهم 200 ألف مواطن، فضلاً عن الأضرار التي لحقت بالموارد الطبيعية مثل المياه.
يقول فيرناندو كوث (Fernando Coz)، مدير منظّمة لاغوس ليمبيوس البيئية التشيلية غير الربحية (Lagos Limpios) ومنسّق مسائل البيئة والاستدامة في جامعة كاليفورنيا ديفيس في تشيلي: "لم يكن الهدف الإضرار بهذه المناطق أو بجودة حياة الأشخاص الذين يعيشون فيها"، ويضيف: "في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كان هدف السياسات الاقتصادية توفير فرص العمل ودفع البلاد إلى الأمام من خلال تعزيز التنمية في بعض المناطق. ولم يكن هناك أي اعتبار للبيئة".
اقرأ أيضاً: الوجه الآخر لصناعة زيت النخيل: تاريخٌ من العبودية وأضرارٌ للبيئة
خلال العقود التي تلت ذلك، أصبحت دول العالم أكثر وعياً بالعلاقة بين الصناعات الاستخلاصية وتدهور البيئة والتغير المناخي والاستياء من عدم المساواة الاجتماعية. تتجسّد هذه المشكلات في مناطق التضحية البيئية، وهي المناطق والمجتمعات التي تعاني من أضرار التلوث السام والنشاطات الصناعية الكثيفة بشكل غير متناسب. (يعتبر طريق السرطان في ولاية نيوأورلينز مثالاً جيداً على هذه المناطق في الولايات المتحدة). الآن، تسعى تشيلي لاستبدال دستورها بمبادئ يمكن أن تضع حداً لمناطق التضحية وإساءة استخدامها.
ميثاق دستوري جديد يحيي آمال سكان تشيلي
لن تؤثر الطريقة التي سيمنح بها هذا الميثاق الدستوري الجديد الأولوية للبيئة والمناخ على المواطنين التشيليين الذين يعيشون في مناطق التضحية فحسب، بل سيؤثر أيضاً في الطريقة التي يتم التحول وفقها لاستخدام الطاقة المتجددة، وهو أمر يتطلب استهلاك كميات كبيرة من الليثيوم والنحاس، كلاهما متوفر بكثرة في البلاد. يتعرّض أيضاً التنوع الحيوي عبر الأنظمة البيئية العديدة في البلاد للخطر.
تعتبر تشيلي غنية بالموارد القيّمة والبيئات المتنوعة مثل القمم الوعرة في باتاغونيا وصحراء أتاكاما الأكثر جفافاً في العالم والغابات البدائية والأنهار الجليدية والسواحل التي يبلغ طولها عدة كيلومترات. لكن هذه الدولة التي تعتبر إحدى القوى الكبرى في أميركا اللاتينية عانت خلال معظم تاريخها في إدارة بيئاتها الطبيعية مع الاستفادة منها بهدف التنمية الاقتصادية بنفس الوقت. وتمثّل مناطق التضحية البيئية أحد الأمثلة الأكثر تطرفاً على عدم التوازن هذا.
تم إنشاء مناطق التضحية الخمس في تشيلي قبل وضع دستور البلاد الحالي، والذي تمت كتابته عام 1980 تحت حكم الدكتاتور أوغستو بينوشيه (Augusto Pinochet). بُنيت أول منشأة صناعية في منطقة كينتيرو-بوتشونكافي من قبل شركة النفط الوطنية التشيليّة (Empresa Nacional del Petróleo، أو إي إن أيه بي) في 1954.
يقول كوث إنه منذ ذلك الحين، "تخلّفت السياسات والقوانين المتعلقة بالقضايا البيئية عن الركب، وأصبحت عاجزة عن مواكبة التطورات". ساعدت الثروة الناتجة عن التعدين والمعالجة الكيميائية والصناعات الاستخراجية الأخرى في تنمية الناتج المحلي الإجمالي لتشيلي بسرعة. واليوم، تصدّر البلاد ما يقرب من ثلث كمية النحاس في العالم، وهي كمية تتجاوز تلك التي تصدرها أي دولة أخرى. تشيلي هي المنتج الرئيسي للمعادن النادرة مثل الرينيوم واليود ونترات البوتاسيوم. بالإضافة إلى ذلك، توجد نسبة 50% من كمية الليثيوم في العالم ضمن حدود تشيلي، على الرغم من أنها لا تنتج سوى 23% من الكمية التي تباع وتشترى حول العالم كل عام.
أدت النتائج الثانوية لعمليات استخراج هذه المعادن وبيعها، بالإضافة إلى نتائج النمو الاقتصادي المرافق لذلك، إلى تلوّت التربة والمجاري المائية وتسمم الهواء والأمراض وحالات الوفاة في المجتمعات التي عملت الشركات الصناعية فيها دون قيود.
مع ذلك، يبدو أن القوانين التي يمكن أن تنظم النشاط الصناعي بدأت تظهر في السنوات القليلة الماضية. دفع الظلم البيئي في مناطق التضحية، بالإضافة إلى جوانب عدم المساواة الاجتماعية الناجمة عنه، البلاد إلى الأخذ بعين الاعتبار إجراء تغييرات دستورية بهدف حماية البيئة. مع ازدياد الطلب العالمي على موارد تشيلي، تعتبر كيفية تنظيم استهلاك هذه الموارد موضوع نقاش مثيراً للجدل.
جعل أول تعديل دستوري مقترح القضايا البيئية مركزيّة في وضع السياسات وعملية صنع القرار في الحكومة. لكن تم رفضه من قبل الشعب في تصويت أجري في أوائل شهر سبتمبر/ أيلول 2022. لكن يعتقد خبراء الاستدامة مثل كوث أن هناك بعض الطرق الأخرى التي يمكن تطبيقها لتخفيف تلوث البلاد وجعلها أكثر ملائمة للعيش. في النهاية، يمنح الدستور الذي طُبق لعقود في البلاد (مع بعض التعديلات) المواطنين حق العيش في بيئة غير ملوثة بشكل صريح. بمرور الوقت، منح قادة البلاد الأولوية للخصخصة وإلغاء الضوابط، ما يبين أن القوانين المكتوبة ليس لها قيمة ما لم يتم تطبيقها.
يشعر كوث بالتفاؤل بأن التغيير وصياغة قوانين متوازنة ممكنان في بلاده، على الرغم من نتائج التصويت الأخير الخاص بالتعديلات الدستورية. يشير كوث إلى الأهداف البيئية التي وضعتها الحكومة الفيدرالية بالفعل، مثل الانتقال لاستخدام الطاقة المتجددة والحفاظ على الأنواع المهددة بالانقراض. على سبيل المثال، تم إقرار قانون جديد ينص على حماية المناطق الرطبة من المشاريع التنموية. يقول كوث: "لقد حصلت نقلة نوعية في الثقافة"، ويضيف: "يقول كل من المواطنين والمجتمعات إن البيئة يجب أن تكون الأولوية".
اقرأ أيضا: نوع نادر من الماس يكشف عن بيئة مائية يحتمل وجوها في أعماق الأرض السحيقة