كثيراً ما يتخيل بعض أنصار البيئة مستقبلاً بدون شركات نفط تسود فيه السيارات الكهربائية، مستقبلاً تتوقف فيه هذه الشركات عن ضخ مواد مسرطنة في الأرض لتفتيت طبقة الصخور التي تحجب الوقود، ووقتها لن يكون ثمة داعٍ لسبر أعماق المحيط بحثاً عن النفط وتلويثه في أثناء هذه العملية. وفي المقابل سيتطلب هذا المستقبل -الذي لن نحتاج فيه إلى استخراج النفط من الأرض- التنقيب عن كميات كبيرة من المعادن، وهذا خبر سيئ للأشخاص الذين يعملون في المناجم أو يعيشون قربها.
يتطلب تصنيع بطاريات السيارات الكهربائية والألواح الشمسية وتوربينات الرياح معادن يصعب الحصول عليها؛ مثل: الديسبروسيوم، والنيوديميوم، والمنجنيز، والكوبالت، والليثيوم. إنها تبدو مثل قائمة تَسوُّق «طوني ستارك»؛ لذا سيحتاج مصنعو السيارات الكهربائية إلى كميات كبيرة من هذه المعادن لإنتاج ما يكفي منها للحفاظ على درجة الحرارة العالمية في مستوى 1.5 درجة مئوية. وهو الهدف المُعلَن عنه في اتفاقية باريس للمناخ. ولتحقيق هذا الهدف -وهو سيناريو متفاءل به ومستبعد- فإن الطلب على الكوبالت والليثيوم؛ سيتجاوز العرض الحالي بحلول عامي 2022 و2023 على التوالي، وفقاً لما جاء في كتاب جديد بعنوان «تحقيق بنود اتفاق باريس للمناخ»، الذي يبحث في العقبات التي تحول دون منع الآثار الكارثية للتغير المناخي.
وفيما يتعلق بالشأن ذاته، تقول «إلسا دومينيش»، كبيرة مستشاري الأبحاث في معهد «المستقبل المستدام» في جامعة سيدني للتكنولوجيا: «نحن ننقب حالياً عن كمياتٍ صغيرة نسبياً من الليثيوم. وبحلول عام 2023، سيزداد استخدامه في بطاريات السيارات الكهربائية، وفي التخزين بشكلٍ أكبر». شاركت دومينيش في كتابة فصل من الكتاب المذكور آنفاً، حيث يتحدث عن المعادن المستخدمة في تكنولوجيا الطاقة النظيفة، توضح قائلة: «ستحتاج الشركات إلى تلبية الطلب المتزايد على السيارات الكهربائية، من خلال التنقيب عن كمياتٍ أكبر من الكوبالت والليثيوم. وبإمكان الشركات إعادة تدوير بطاريات السيارات الكهربائية القديمة؛ للحد من عمليات التنقيب التي ينبغي القيام بها».
اقرأ أيضا: اللبنة: صديقة المعدة والبيئة
وتضيف دومينيش: «باستخدام التكنولوجيا الحالية، يمكننا استرداد نحو 95% من الليثيوم عن طريق إعادة التدوير، لكننا لا نختار القيام بهذا. حالياً، لا تُستعاد سوى كميات صغيرة من هذا المعدن؛ إذ تركز الشركات على إعادة تدوير المعادن النفيسة؛ مثل: الكوبالت، والنيكل».
وإن عرفنا أن بطاريات السيارات الكهربائية تدوم قرابة 10 سنوات فقط، فهذا يعني أن البطاريات القديمة مصدراً وفيراً لليثيوم. هذه مسألة مهمة؛ لأن الجيل القادم من هذه البطاريات يُرجَّح أن يكون بطاريات ليثيوم الكبريت، والتي تعتمد على الليثيوم أكثر من بطاريات أيون الليثيوم الشائعة الاستخدام حالياً.
وقد وصفت دومينيش وزملاؤها تأثير عمليات إعادة التدوير في الطلب المستقبلي على الكوبالت والليثيوم، حيث قدَّروا -في البداية- كميات المعادن اللازمة لتفادي الآثار الكارثية للتغير المناخي بحلول عام 2050، ثم قاسوا مقدار الطلب على الكوبالت والليثيوم في حالة إعادة التدوير لأكبر قدر ممكن من كل معدن. ستؤدي إعادة التدوير -كما كان متوقعاً- إلى تقليل الحاجة بشكلٍ جذري إلى التنقيب عن هذه المعادن. وفي مرحلة أخيرة، قاس الباحثون حجم الطلب على كل معدن في حالة إعادة تدوير البطاريات القديمة، واحتضان الشركات بطاريات ليثيوم الكبريت، وجدوا أن هذا من شأنه أن يؤدي إلى خفض الطلب على الكوبالت المستخرج من الأرض، نظراً لأنه لا يدخل في صناعة بطاريات ليثيوم الكبريت، لكن الطلب سيزيد على استخراج الليثيوم.
وتتخذ إعادة التدوير أشكال عدة؛ فمن ناحية يمكن للشركات أخذ بطاريات السيارات الكهربائية القديمة التي لا تخزن الطاقة بالقدر السابق نفسه، وتعيد استعمالها بطاريات منزلية لتخزين الكهرباء التي تولدها الألواح الشمسية. ومن ناحية أخرى، يمكن للشركات استخراج المعادن من البطاريات القديمة، واستخدامها لصنع بطاريات جديدة، وقد شرعت الشركات بفعل هذا مع الكوبالت دون الليثيوم.
إن إعادة التدوير تعني عمليات تنقيب أقل، وهذا أمر جيد؛ لأنها محفوفة بالمخاطر. يأتي حالياً معظم الكوبالت من جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث يجمع عمال المناجم -وعشرات الآلاف منهم أطفال- زهاء 20% من الكوبالت المنتج عالمياً. قد يقضي هؤلاء العمال، المعروفون باسم «المنقبين»، اليوم بأكمله في جمع الكوبالت بأيديهم، ليبيعوه فقط للمتَّجِرين به مقابل دولار أميركي أو دولارين.
هذه العملية شاقة، وعادة ما يفتقر «المنقبون» إلى معدَّات واقية مثل القفازات والأقنعة؛ لذلك فهم يستنشقون غبار الكوبالت باستمرار، وهو ما قد يسبب أمراض رئوية فتاكة. في تصريحه لمنظمة العفو الدولية، قال أحد عمال المناجم: «نعاني جميعاً مشكلات في الرئتين، ونحس بآلام في جميع أنحاء أجسادنا». وقال طفل آخر: «ثمة الكثير من الغبار؛ لذلك من السهل الإصابة بنزلات البرد. نحس بالألم في كل مكان».
ليس لاستخراج الليثيوم سجل الاستغلال نفسه المصاحب للتنقيب عن الكوبالت، لكنه لا يخلو من المخاطر. على المسطحات المالحة في الأرجنتين وبوليفيا وشيلي، يسحب عمال المناجم المياه الغنية بالليثيوم من أعماق الأرض، ويصبونها في أحواض حيث يتبخر الماء تاركاً خلفه الليثيوم، وتستنفذ شركات التنقيب من خلال هذه العملية المياه الجوفية التي تشتد الحاجة إليها في المناطق الصحراوية القاحلة.
التنقيب في أعماق البحار مصدر بديل لاستخراج الكوبالت والليثيوم، وتهديده على الإنسان أقل، ولكن هذه العملية خطرة أيضاً؛ إذ يعمل حفر قاع المحيط على تهديد حياة المخلوقات التي تعيش هناك، بالإضافة إلى أن الضوضاء الناتجة عن أدوات التنقيب تُلحق الضرر بالحيتان، والدلافين، وأسماك القرش، والسلاحف التي تسبح في أماكن قريبة.
يمكن للشركات الحد من عمليات التنقيب المدمرة من خلال إعادة تدوير بطاريات السيارات الكهربائية القديمة، لكن إعادة التدوير ليست علاجاً شاملاً، وستظل الشركات بحاجة إلى استخراج كميات كبيرة من الكوبالت، والليثيوم، ومعادن أخرى للتَّحوُّل التدريجي نحو استخدام السيارات الكهربائية. وفي تقرير حديث بتكليف من منظمة «Earthworks»؛ حثت دومينيش وزملاؤها المُصنِّعون على استخدام مواد خام ناتجة عن عمليات تنقيب مسؤولة، وبالتحديد المواد التي صادقت عليها أطراف ثالثة، وأشاروا كذلك إلى الإرشادات التي ينبغي اتباعها عند شراء المعادن من عمال المناجم بكيفية تضمن حماية صحتهم وسلامتهم.
وفي الختام، قالت دومينيش: «إعادة التدوير يمكن أن تلبي بعض الطلب على هذه المعادن، وسنحتاج مع ذلك إلى مقاربة جديدة لعمليات التنقيب لتكون مسؤولة وآمنة».
اقرأ أيضا: كيف يمكن لسلاسل الفنادق الكبرى الحد من تلوث البيئة؟