جاء انتشار الإنترنت مع مزاعم تؤكد أن استخدامه سيؤدي لانخفاضٍ كبير في طباعة الأوراق، من خلال استبدال استخدام الورق بالصفحات الرقمية، كنّا نظن أننا سنقلل بذلك من تأثيرنا السلبي على البيئة بالفعل. إلا أن ذلك الوعود السابقة قد لا تتحقّق مع تنامي استخدامنا للأجهزة الرقمية، فهي، مثل معظم التقنيات، لها آثرٌ على البيئة أيضاً.
تعمل الأجهزة الرقمية على الكهرباء الآتية غالباً من محطّات توليد الكهرباء العاملة على الفحم، كما تُصنع هذه الأجهزة من موّاد مثل المعادن والزجاج والبلاستيك، وهذه المواد بدورها لا بدّ من استخراجها أو تصنيعها أو أن تكون مدوّرة.
لذلك، وبالرغم من أن التقانات الرقمية قد تسهم إيجاباً لمصلحة البيئة، إلا أننا لا نعتقد أنها كذلك دائماً. يُظهر بحثي الذي نشرته هذا العام أنهّ لا يزال علينا عمل الكثير للكشف عن الأثر الحقيقي للتقانات الرقمية وأثرها على البيئة، وتوضيح زيف الادعاءات بأنّها صديقةٌ للبيئة.
قياس بصمة الكربون للتقنيات الرقمية
من الصعب قياس التأثيرات البيئية لحياتنا الرقمية، ويعود ذلك في جزءٍ منه إلى أنّ تعقيد «النُظم البيئية الرقمية» التي تسهّل عمل الإنترنت، حيث تُعرف جمعية الأمم المتحدة للبيئة «UNEA» مُصطلح النظام البيئي الرقمي بأنّه «شبكةٌ موزعة ومعقّدة أو عبارة عن نظامٍ اجتماعي - تكنولوجي مترابط».
وببساطة، النظم البيئية الرقمية هي منتجٌ بشري، تشمل البنية التحتية الرقمية اللازمة لتشغيلها والأجهزة المرتبطة والمتفاعلة معها ومع بعضها البعض، وهي تعتمد في عملها على استهلاك الطاقة على عدّة صُعد. ويرتبط مصطلح «النظام البيئي الرقمي» بالمصطلحات البيئية خاصة فيما يتعلّق بكيفية عمل النظم التكنولوجية التي يصنعها الإنسان. لكّن النظم البيئية الرقمية غير مستدامةٍ كُلياً بحكم طبيعتها.
ويجدر بنا النظر في الآثار البيئية للأنظمة البيئية الرقمية أثناء نموها. ففي عام 2017، نُشر تقريرٌ في دورية نيتشر يفيد بزيادة تدفّق البيانات عبر الإنترنت (من وإلى مراكز البيانات) بمعدلات قياسية. فقد وصل حجم مرور البيانات في تلك المرحلة إلى 1.1 زيتّابايت (تساوي واحدة زيتابايت تريليون جيجابايت). إن استمرار استهلاكنا الرقمي يؤدي بالنتيجة لزيادة انبعاثاتنا من الكربون.
اقرأ أيضا: الوجه الآخر لصناعة زيت النخيل: تاريخٌ من العبودية وأضرارٌ للبيئة
مخاطر مراكز البيانات على البيئة
تساهم مراكز البيانات إلى حدٍ كبير في انبعاثات الكربون للنظم البيئية الرقمية، وهي عبارة عن مصانع لتخزين وحفظ واستعادة البيانات بالنسة لنا. تشير التقديرات، في أبريل/ نيسان من العام الماضي، إلى أن مراكز البيانات في جميع أنحاء العالم قد استهلكت أكثر من 2% من الكهرباء في العالم، وأصدرت انبعاثات من الكربون تعادل الانبعاثات الناتجة عن صناعة الطيران العالمية (من حيث استهلاك الوقود).
وبالرغم من الجدل الدائر حول تأثير صناعة الطيران على التغير المناخي، إلا أننا أقل قدرة غالباً على تقدير أثر حياتنا الرقمية على البيئة بالطريقة نفسها.
وفقاً للبروفيسور «جون نوتون» في جامعة بريطانيا المفتوحة، فإن الطاقة التي تستهلكها مراكز البيانات تشّكل 50% من إجمالي الطاقة التي تستهلكها الأنظمة البيئية الرقمية، بينما تستخدم الأجهزة الشخصية 34% منها، أما المجال الصناعي الذي يقوم بإنتاجها فيستهلك 16% من إجمالي طاقتها.
وقد التزمت شركات التكنولوجيا العملاقة مثل آبل وجوجل بهدف استخدام الطاقة المتجددة بنسبة 100% في المستقبل، إلا أن ما يمثّله استهلاك هاتين الشركتين ليس سوى جُزءٍ بسيطٍ من استهلاك النظام البيئي الرقمي العملاق. وقد اعتمدت هذه الشركات في العديد من المناسبات على ما يُسمّى «تعويض الكربون» لتحقيق ذلك. حيث ينطوي تعويض الكربون على استثمار الأشخاص والمنظمات في مشاريع بيئية للعمل على موازنة انبعاثاتها من الأنشطة الأخرى، على سبيل المثال، يمكن للناس المساهمة بتعويض الكربون عن طريق شراء كوبونات «تعويض الكربون» عند حجز الرحلات الجوية للمساهمة بتقليل الانبعاثات في مكانٍ آخر.
وقد أُنتقدت عملية تعويض الكربون هذه لأنها لم تكن فعّالة في خفض آثار الكربون المنبعثة عن نشاط الأثرياء، في حين كانت تخفف من شعورهم بالذنب تجاه أثر نشاطاتهم على البيئة.
أمامنا طريق مليء بانبعاثات الكربون
مع ظهور المزيد من التقنيات الرقمية، من المحتمل أن تزداد الآثار البيئية للأنظمة البيئية الرقمية. وبغض النظر عن آثاره الاجتماعية والاقتصادية الواضحة، ينبغي النظر بجدية في الآثار البيئية للذكاء الاصطناعي أيضاً.
فقد كشف بحث نشره باحثون من جامعة ماساشوتس أمهيرست في يوليو/ تموز أن تدريب آلةٍ كبيرة على الذكاء الاصطناعي يمكن أن ينتج عنه بالمتوسط خمسة أضعاف كمية الانبعاثات الناتجة عن سيارةٍ واحدة (متضمنةً الوقود) خلال حياة المرء الذي يستخدمها، كما أن هذا الرقم يعبّر فقط عن تدريب آلةٍ كبيرة للذكاء الصنعي، فهناك طرقٌ أخرى مختلفة تستهلك بها هذه الآلات الطاقة.
وبالمثل، يستمر تعدين البيتكوين في استهلاك كمياتٍ كبيرةٍ من الطاقة، ويتّسع على النطاق العالمي، ووفقاً لوكالة الطاقة الدولية، فإن تعدين البيتكوين يستهلك طاقةً أكثر مما تستهلكه بعض البلدان، مثل النمسا وكولومبيا.
اقرأ أيضا: اللبنة: صديقة المعدة والبيئة
نحو نظام بيئي رقمي أفضل
يتضمن النظام البيئي الرقمي الذي يدعم أجهزتنا أنظمة التخزين والشبكات التي لا توجد في منازلنا أو أماكن عملنا، مثل «مركز التخزين السحابي». ولكن لا يزال يتعين علينا تحمل مسؤولية تأثير هذه النظم على البيئة.
لقد أصبح مفهوم الإنترنت يشمل جوانب عديدةً أبعد من مفهومه التقليدي، مثل الأقمار الصناعية في الفضاء، والتمديدات الممتدة أسفل الشوارع والمحيطات، ودائماً ما يستخدم إنترنت الأشياء تقنياتٍ قديمة ويغيّر من شكل استخدامها. قد يفسّر شكل البنية التحتية هذه للانترنت سبب إهمال الأثر البيئي المتنامي للأنظمة البيئية الرقمية. إنترنت الأشياء هو مصطلح برز حديثاً يقصد به الجيل الجديد من الشبكة الذي يتيح التفاهم بين الأجهزة المترابطة مع بعضها، ويشمل الأجهزة الأدوات والمستشعرات، والحساسات وأدوات الذكاء الاصطناعي المختلفة وغيرها.
وعموماً، هناك بعض الطرق التي يمكن من خلالها للناس معرفة المزيد حول الخيارات التقنية الصديقة للبيئة. على سبيل المثال، يقدّم الدليل الذي أصدرته منظّمة «غرين بيس» عام 2017 تقييماً للشركات التي تعتمد في منتجاتها على خياراتٍ صديقة للبيئة. كما تقوم بتقييم مجموعةٍ من الشركات، بما فيها تلك التي تقوم بإدارة المنصات الرقمية، والشركات التي تستضيف مراكز البيانات.
وبالرغم من فائدة هذا الدليل، إلا أنه غير دقيق أيضاً بسبب افتقاره للشفافية بالنظر إلى أنّ الشركات غيرُ مُلزمةٍ بمشاركة المعلومات المتعلّقة بمقدار استهلاكها للطاقة اللازمة لتشغيل مراكز بياناتها.
مساءلة شركات التكنولوجيا الكبيرة
يجب ألا تقع مسؤولية جعل حياتنا الرقمية أكثر استدامة على عاتق الأفراد فقط. بل يجب على الحكومات توفير بيئةٍ تنظيمية ذات شفافيةٍ أكبر حول كيفية استخدام الشركات الرقمية للطاقة، ويجب أن تتضمن محاسبة هذه الشركات عبر تقديم تقارير عما إذا كانت تعمل على تحسين استدامة ممارساتها.
تتمثّل إحدى الخطوات التي يمكن للشركات المنتجة للأجهزة الرقمية اتخاذها على الفور في الابتعاد عن إنتاج أجهزةٍ تعتمد مبدأ «التقادم المُخطط». على سبيل المثال، الهواتف الذكية التي تنتجها آبل وسامسونج وغير المصممة لتدوم طويلاً.
إنّ استخدام الاستدامة الرقمية مفيدٌ لتأطير كيفية تأثير التقنيات الرقمية على عالمنا البيئي. نحن بحاجةٍ إلى الاعتراف بأن التكنولوجيا ليست مجرّد مصدرٍ للحلول البيئية وحسب، ولكن بإمكانها أن تؤثّر سلباً على بيئتنا.
حينها فقط، يمكننا البدء في الانتقال بفعاليةٍ أكبر نحو مستقبلٍ أكثر استدامةً يتضمن التقنيات الرقمية أيضاً.
تم نشر هذا المقال بواسطة «جيسيكا ماكلين» في موقع ذا كونفيرسيشن
اقرأ أيضا: الحيتان الحدباء لم تعد مهددة بالانقراض: ولهذا السبب تعيش في بيئة بحرية بديلة