الفئران! تفسد طعامنا، وتخرّب أثاث منازلنا، وتنشر مختلف الأمراض الخطيرة بيننا. لها منظر غير محبب، ذيلها عارٍ وحركتها سريعة خاطفة، وهي، فوق كلّ ذلك سمينةٌ ممتلئة، تغزو منازلنا الذي نعتبره المكان الوحيد الذي يُفترض أن يكون آمناً لنا.
ثبت على مدى آلاف السنين التي عشناها معها أنه من المستحيل تقريباً التخلّص منها، فهي قادرةٌ على التكيّف مع مختلف الظروف إلى حدّ يمكنها أن تستغل كلّ زاويةٍ وركنٍ في المدينة وتغزوه. كما أنها بارعةٌ في تجنّب الفخاخ والسموم، وتتكاثر بمعدلاتٍ مذهلةٍ لدرجة تكون فيها محاولة إبادتها مضيعةً للوقت تماماً.
إذاً، هل يبدو غريباً أن تعاني العديد من المدن من الفئران؟ أو هل تتحمل السلطات المحلية في المدن بعض المسؤولية عن مشكلة الفئران التي تغزوها؟ تقول «تشيلسي هيمسورث» أنها وبصفتها باحثةٌ في الحياة البرية والصحة العامة، كانت تقوم على مدى 10 أعوامٍ مضت بالاستكشاف والبحث في هذا الأمر، بالتعاون مع الجمعية الكندية للحياة البرية والصحة، وجامعة كولومبيا البريطانية.
تحديات إدارة القوارض في المناطق الحضرية
تتحمّل البلديات الجزء الأكبر من سبب انتشار القوارض فيها. على سبيل المثال تتخذ البلدية مجموعة من الإجراءات والبرامج غير المترابطة لمعالجة مشكلة الفئران، حيث يكون التنسيق بين البرامج والطرق في أحسن الأحوال عشوائياً، وفي أسوأ الأحوال غائباً تماماً.
فمثلاً، تقوم السلطات في البلدية بمكافحة انتشار الفئران الوبائي في الممتلكات العامة، أو في المباني المقرر هدمها، بينما تتصدى السلطات الصحية المحلية لتفشي الفئران في المنشآت الغذائية، أو عندما تتسبب بانتشار مرض يهدد الصحة العامة. أما الجزء الأكبر فتُترك مواجهته على عاتق الناس.
وهناك مشكلةٌ كبيرة بالنسبة للفئران التي تتواجد في المناطق الحضرية، فنحن ببساطة لا توفر لدينا بياناتٌ كافية حتى على الأسئلة الأساسية، مثل عددها؟ أو أين تعيش تحديداً؟ وما سبب تواجدها في أماكن معينة دون غيرها. وفيما لو كانت المشكلة ستتفاقم أم لا؟
وعلى الرغم من هذا النقص الحاصل في البيانات الضرورية، غالباً ما تكون المدن على استعدادٍ لإنفاق مبالغ طائلة، واستنزاف الكثير من الموارد، والوقت في مكافحتها؛ مثل حملة المكافحة التي تقوم بها مدينة نيويورك التي سمتها «الحرب على الفئران» التي تصل تكاليفها إلى 32 مليون دولار.
ذلك يعني أنه ليس لدى سلطات المدينة معيارٌ تستند إليه لتقيس العائد من مثل هذا استثمار، لأنه، وبدون البيانات الضرورية حول الفئران، لن يكون باستطاعتهم معرفة ما إذا كان تدخلّهم قد حسّن من واقع المدينة، وحلّ المشكلة.
التعايش مع الفئران
قد يكمن مفتاح حل هذه المشكلة في تغيير وجهة نظرنا ببساطة. فبدلاً من النظر إلى المدينة كمكانٍ نسيطر عليه بالكامل وقد غزته الفئران، ينبغي النظر إلى المدينة كنظامٍ بيئي يمكن أن تعيش فيه الفئران أيضاً. وذلك لا يعني أننا يجب أن نحب الفئران، ولا يعني أن نتركها وشأنها. بدلاً من ذلك يمكننا تحويل تركيزنا إلى إدارة نظامٍ بيئي تكون الفئران فيه جزءاً منه، بدلاً من التركيز على الفئران نفسها.
وبمجرد أن نفهم أننا ندير نظاماً بيئياً، يصبح من الواضح أن القيادة والتخطيط الاستراتيجي أمران ضروريان لصيانته. إن مفهوم التعامل مع نظامٍ ما يتمثل في التعامل مع كل مكوناته كمجموعٍ بدلاً من التعامل مع أجزاءٍ منه؛ وهو عكس النهج الاختزالي الذي اعتدنا عليه والذي يتعامل مع المشكلة على أساس أنها مستقلةٌ عن ما حولها.
أي أننا بحاجةٍ لفهم النظام البيئي الحضري، تماماً كما لو كنا نحاول إدارة مجموعات الدب القطبي في بيئة القطب الشمالي، أو الفيلة في مناطق السافانا. وذلك يعني استثماراً كبيراً وطويل الأجل في جمع البيانات الإحصائية عن الفئران، ودراسة الشروط المثلى التي تدعم وجودها، بالإضافة لدراسة تأثير أي تدخلٍ نقوم به عليها ضمنياً.
كما يعني أيضاً فهم التفاعل بين الفئران والبشر. تشكل الفئران تهديداً بسيطاً نسبياً على الناس في معظم المناطق الحضرية، وبالتأكيد لا يتناسب هذا التهديد مع مقدار الاهتمام السلبي الكبير الذي تثيره الفئران، وبالتالي علينا أن نفهم السبب في أننا نرى الفئران مزعجةً للغاية ومخيفةً بشكلٍ ما، وما الذي يمكننا فعله للحد من هذا الخوف والإزعاج الذي تسببه لنا.
النظم البيئية الحضرية
يقودنا النظام البيئي الحضري نحو دراسة مناطق الضعف والقوة داخله. فعندما يتعلّق الأمر بالفئران، يتضح في الحال أن تواجد الفئران في منازلنا هي نقطة ضعف في هذا النظام، وذلك لعدم تقبل وجودها بالقرب منا، وبالرغم من ذلك؛ غالباً ما تتجاهل بلديات المناطق السكنية في معالجة مشاكل انتشار الفئران.
وكذلك تؤثر مشكلة انتشار الفئران والمشاكل التي تنتج عنها بشكلٍ كبير؛ وغير متناسب في الأحياء الفقيرة داخل المدينة؛ وبالأخص أن سكّان هذه الأحياء معرضون للأخطار الصحية والعقلية الناجمة عن انتشار الفئران بينهم. إذاً يمكن للمدن من خلال تحديد مكامن الضعف هذه والتركيز عليها، أن تبدأ باتخاذ إجراءات فعالةٍ تُحدث فرقاً في كيفية تصورنا وتعاملنا مع مشكلة الفئران.
طبعاً لا يعني ذلك تجاهل بقية مشهد البيئة الحضرية عموماً. يجب تحديد مكامن الضعف في إطار المشهد البيئي الأكبر الذي يعتمد في على مبادئ النظام البيئي لمعالجة مشكلة الفئران تحديداً. من الأمثلة على ذلك، تغيير تصميم حاويات القمامة، وتفعيل القوانين الصارمة التي تضمن الحياة في بيئة صحية وخالية من الفئران.
يمكن لمثل هذه السياسات والبرامج التي تزيد مرونة النظام أن تحدّ من الأضرار الصحية والنفسية التي تسببها الفئران، والنتيجة التي سنخرج بها هي أننا سنجد ان التعايش مع الفئران؛ سيبدو مشابهاً للتعايش مع السناجب مثلاً.