ما زال الجميع يتحدثون حول التغير المناخي وتخفيض انبعاثات غاز الكربون التي نُحدثها، واستخدام المحركات الحديثة في وسائل النقل التي لا تتسبب بأية انبعاثات، وزراعة المحاصيل التي تدخل في صناعة أنواع الوقود الحيوي، وإلخ، ولكن ما صحّة ما يُشاع بأن لو حدثت ثورات البراكين لبضعة أسابيع؛ قد تضيع كافة جهودنا هباءً؟
المبرر لطرح هذا السؤال مفهومٌ بشكلٍ عام، لأن قوى الطبيعة تكون جامحة في بعض الأحيان، لدرجة أن جهودنا التي نقوم بها للحد من آثار التغير المناخي؛ قد تكون بلا جدوى. إذا كان ثوران بركانٍ واحد قد يؤدي إلى تغير مناخنا ليصبح عالمنا «بيتاً جليدياً» أو «دفيئةً»؛ فهل تكون جلّ جهودنا للتخفيف من آثار التغير المناخي مضيعة للوقت؟
للإجابة على هذا السؤال؛ نحتاج لفهم تركيب غلافنا الجوي، والأدلة الجيولوجية الموجودة التي تدّل على لعب البراكين دوراً حقيقياً في التغير المناخي، بالإضافة إلى البيانات الحديثة التي تقارن بين الانبعاثات الناتجة عن النشاط البشري، وتلك الناتجة عن نشاط البراكين.
في الحقيقة هناك أدلّةٌ فعلاً في السجل الجيولوجي على التغير المناخي الكارثي الذي تسببت به الثورات البركانية الهائلة. ولكن ظهرت في الآونة الأخيرة دراساتٌ تشير إلى أن الانبعاثات البركانية قد تتسبب في تبريد مناخ الكوكب على المدى القصير، واحتباسٍ حراري على المدى الطويل. أما الدليل الحقيقي فهو أن انبعاثات غازات الدفيئة التي يسببها الإنسان تفوق بكثير تلك الناتجة عن النشاط البركاني؛ خصوصاً منذ عام 1950.
مكونات الغلاف الجوي
بالعودة إلى النظريات الأولى لنشوء غلافنا الجوي والمكان الذي نشأ منه، نجد أن عمر الأرض يصل إلى 4.56 مليار سنة، كما أن المجمّع العلمي متفقٌ على أن الغلاف الجوي ناتجٌ عن 3 عملياتٍ رئيسية:
1. بقايا غازات السديم الشمسي البدائي في بدايات تشكل كوكبنا.
2. الانبعاثات المتأتية من باطن الأرض عبر البراكين والأحداث المرتبطة بها.
3. إنتاج الأكسجين من عملية التمثيل الضوئي.
كما كانت هناك مكوناتٌ أتت من المذنبات والأجسام الفضائية التي اصطدمت بالأرض على مرّ الزمن.
تُعد الانبعاثات الداخلية من باطن الأرض -من بين كل تلك العمليات- هي الأهم في تكوين الغلاف الجوي، خصوصاً خلال «الدهر الجهمني»، أول دهرٍ من أصل 4 أدهر مرّت بها الأرض منذ نشأتها. بدأت الثورات البركانية منذ ذلك الحين، وساهمت في الجزء الأكبر من غازات الغلاف الجوي؛ بالتالي تكوين مناخ الأرض.
بعد أن تعرفنا على كيفية تكوّن الغلاف الجوي يأتي السؤال: ما هو تأثير الثورات البركانية على المناخ؟ في الواقع، لقد تغيّر مناخ الأرض عبر الحقب الجيولوجية المختلفة. فقد كان هناك فتراتٌ كانت حرارة الأرض فيها مرتفعة ولا يوجد فيها جليد، والبعض يجادل أن مستوى سطح البحر كان أعلى بمقدار 200 - 400 متر عن مستواه الحالي. أي أن نسبةٍ كبيرةً من اليابسة كانت مغمورةً تحت سطح الماء.
كما مرّ وقت على الأرض كانت فيها عبارةً عن «كرة ثلج»، حين كان كوكبنا مغطّى بالجليد حتى عند خطّ الاستواء.
ما هو دور الثورات البركانية في هذا التنوع المناخي في كوكبنا؟ كمثالٍ عن التأثير الرئيسي لها، يربط بعض العلماء بين سلسلة حوادث الانقراض الجماعي الضخمة بالثورات البركانية الرئيسية الهائلة التي حصلت.
من أشهر تلك الارتباطات كانت حوادث الثورات البركانية التي أدّت لنشوء «مصاطب سيبيريا»، وهي منطقةٌ واسعةٌ صخورها بركانية كثيفة، تتراوح مساحتها بين 2.5 و 4 ملايين كيلومتر مربع تقع في شرق روسيا. تسببت الثورات البركانية السريعة والضخمة منذ حوالي 252 مليون سنة في إطلاق كمياتٍ كبيرةٍ من «الهباء الجوي - sulfate aerosols»، وثاني أكسيد الكربون مؤدية لنشوء فصولٍ شتاءٍ بركانية قصيرة الأمد لفترةٍ امتدت لعشرة آلاف سنة.
كانت ثورات فترة المصاطب السيبيرية عاملاً رئيسياً في أكبر حادثة انقراضٍ جماعي حدثت حينها (في نهاية العصر البرمي)، وسُميت «الموت العظيم»، والتي اختفى فيها 96% من الأنواع البحرية، و 70% من الحياة البرية.
تغير المناخ الطبيعي خلال 100 مليون سنة الماضية
تشير الدلائل الجيولوجية إلى أن العمليات الطبيعية يمكنها بالفعل تغيير مناخ الأرض فعلاً بشكل جذري. فخلال العصور الجيولوجية الحديثة -تقريباً خلال المئة مليون عام الماضية- بردَت مياه المحيطات العميقة، وانخفض مستوى سطح البحر، وازدادت كميات الجليد. كما شهدت هذه الحقبة نوبات زمنيةٍ من ارتفاع درجة حرارة الأرض؛ كانت على الأغلب بسبب انبعاثاتٍ سريعة/طبيعية من غازات الدفيئة.
تطور الإنسان العاقل «هومو سابينيس» خلال ملايين السنين القليلة الماضية كثيراً، تحديداً خلال العصر الجليدي عندما غطت صفائح جليدية يصل سمكها إلى كيلومترين مساحات شاسعة من القارات الشمالية، وكان مستوى سطح البحر أقل من 100 متر عن اليوم. انتهت هذه الفترة منذ 10.000 سنة عندما بدأت فترة ارتفاع درجة الحرارة الحديثة الحالية.
كما أنّ الدورات الفلكية التي تؤدي إلى تنوع المناخ مفهومةٌ جيداً، مثل دورات «ميلانكوفيتش» التي تفسّر التغير المناخي مع اختلاف مدار الأرض حول الشمس، ودوران كوكبنا وميلانه حول محوره. أما النظريات الجيولوجية والتكتونية التي أدّت لتبريد الأرض على المدى الطويل؛ فلا تقدم تفسيراً مقنعاً كافياً في الحقيقة. من بين تلك الفرضيات؛ هي الثورات البركانية والحركات التكتونية التي أدت لنهوض جبال الهيمالايا وهضبة التبت؛ منذ حوالي 55 مليون سنة.
ثوراتٌ بركانية كان لها تأثير على المناخ
درس الباحثون تأثير بعض ثورات البراكين الحديثة وتأثيرها على المناخ. من بينها كان ثوران بركان جبل «بيناتوبو» في الفلبين، أحد أضخم الثورات البركانية الحديثة الذي حدث عام 1991، حيث أطلق ما يُقارب 20 مليون طن من ثاني أكسيد الكبريت والرماد في طبقة الستراتوسفير.
تؤدي مثل هذه الانفجارات الضخمة إلى تقليل كمية الإشعاع الشمسي الذي يصل إلى سطح الأرض، بالتالي انخفاض درجة الحرارة في الطبقات السفلى من التروبوسفير (الطبقة الجوية السفلى ناحية الأرض)، وتغيّر أنماط دوران الغلاف الجوي. وفي حالة بركان بيناتوبو، هبطت درجات حرارة التروبوسفير على مستوى العالم إلى نحو 4 درجات مئوية، لكّن ارتفعت حرارة فصل الشتاء في نصف الكرة الشمالي.
تطلق البراكين مزيجاً من الغازات، بما فيها غازات الدفيئة والهباء الجوي والغازات التي يمكن أن تتفاعل مع غازات الغلاف الجوي الأخرى، حيث يمكن أن تنتج مركبّات أحماض الكبريت المختلفة، والتي تصبح عوالق في الجو تعمل على تبريد الغلاف الجوي.
كما أنّ انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون طويلة الأمد من البراكين يمكن أن يكون لها تأثيرٌ على حرارة الأرض. فالثورات البركانية التي يمتد تأثيرها على نطاقٍ واسعٍ بحيث تصل انبعاثاتها من الرماد إلى طبقات الستراتوسفير؛ لها تأثيرٌ أكبر على المناخ، وبالتالي كلما طالت فترة ثوران البركان كان تأثيره على المناخ أكبر.
يُعتقد أن هذا النوع من الثورانات كانت أحد الأسباب جزئياً في حدوث «العصر الجليدي الصغير»، وهي الفترة التي انخفضت فيها درجات الحرارة بمقدار 0.5 درجة مئوية، واستمرت منذ القرن الخامس عشر وحتى أواخر القرن التاسع عشر. يمكن أن تُحدث ثورات البراكين الهائلة -مثل براكين يلوستون في الولايات المتحدة، وبركان «توبا» في إندونيسيا، وبركان «تاوبو» في نيوزيلندا- تغيراتٍ مناخية كبيرة نظرياً في حال انفجارها، ولكّن ما تزال هناك شكوكٌ حول المدة اللازمة لاستمرار هذه البراكين في الثوران لكي تُحدث تغيراً مناخياً ملحوظاً.
ربما كانت الإجابة على تساؤلنا عن من له تأثيرٌ أكبر على المناخ، الانبعاثات الناتجة عن النشاط البشري أم تلك الصادرة من البراكين، في المقارنة بين حجم الانبعاثات الفعلي لكّلٍ منهما. فمثلاً منذ عام 2015، تراوحت تقديرات انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتج عن النشاط البشري بين 35 و 37 مليار طن سنوياً، بينما بلغت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون البركانية حوالي 200 مليون طن سنوياً.
عام 2018، كان حجم إنتاج ثاني أكسيد الكربون الناتج عن الأنشطة البشرية أعلى بمقدار 185 مرة من الانبعاثات البركانية. تلك البيانات الإحصائية مذهلةٌ حقاً؛ دفعت العديد من الجيولوجيين وعلماء الطبيعة لاقتراح حقبةٍ جيولوجيةٍ جديدة أطلقوا عليها اسم حقبة «الأنثروبوسين»، يشير إلى أن البشر قد تجاوزوا في تأثيرهم على المناخ تأثير العديد من العوامل الطبيعية، خصوصاً منذ خمسينيات القرن الماضي
هناك دليلٌ على أن البراكين قد أثرت بشدة على المناخ ولكن على المدى الطويل جداً نسبياً، وعلى المقاييس الزمنية الجيولوجية. لكن ومنذ الخمسينيات تحديداً؛ أصبح للإنسان العاقل التأثير الأكبر على المناخ إلى حدٍّ كبير. دعونا لا نتخلى عن طموحاتنا لخفض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، فليس بإمكاننا إلقاء اللوم على البراكين مطلقاً.