يأتي أقدم دليل على الإنسان المنتصب «هومو إيركتوس» من أحد التلال القاحلة بالقرب من حدود إثيوبيا وكينيا. على الرغم من أن الأحفورة التي يبلغ عمرها 1.9 مليون عام ليست سوى قطعة صغيرة، إلا أن العينات الأكثر اكتمالاً، وإن كانت لأفرادٍ أصغر سناً، تظهر أنها لأنواع بدت بشرية يمكن التعرف عليها. كان لهذه الأنواع سيقان طويلة وأذرع قصيرة. كان وجهها مسطحاً، بدون أنف وشبيهاً بالشمبانزي. خلف هذا الوجه كان هناك دماغ ضخم، أكبر من دماغ أي من أسلافه.
السؤال إذاً، ما هي القوى التي شكلت الإنسان المنتصب، ثم سليله الإنسان العاقل «هومو سابيان»؟
آكلات لحوم ذات مهارة عالية
هناك نظرية شائعة مفادها أن النظام الغذائي المليء باللحوم سمح للإنسان المنتصب بتنمية قوته العقلية. ومع ذلك، يلقي تقرير جديد بظلال من الشك على الأدلة الأساسية التي تدعم هذه الفكرة.
يُشار أحياناً إلى النظرية القائلة بأن النظام الغذائي الغني باللحوم قد ساعد على نمو الدماغ البشري بفرضية "اللحم جعلنا بشراً". يقول أندرو بار، عالم الأنثروبولوجيا القديمة بجامعة جورج واشنطن، والذي يدرس بيئة التطور البشري المبكر: «إحدى الأفكار الرئيسية هي أنه إذا تحولت من نظام غذائي نباتي إلى نظام غذائي غني بالبروتينات والدهون، مثل تناول اللحوم ونخاع العظام من الجثث، فستحصل على الطاقة التي تحتاجها لتنمية دماغ أكبر».
يمكن أن يفسر تناول اللحوم خاصية أخرى للإنسان المنتصب؛ جهازه الهضمي الرقيق الشبيه بالجهاز الهضمي للإنسان الحالي. تقول بريانا بوبينر، عالمة آثار حديقة الحيوان في متحف سميثسونيان للتاريخ الطبيعي: «تتخذ أمعاء القرود الأخرى شكلاً مخروطياً تقريباً، مع قمة صغيرة وقاع (جزء سفلي) عريض. المعدة لدى الإنسان المعاصر أشبه بمخروط ضيق ولكنه ليس كاملاً».
لعقود من الزمن، أشار مؤيدو النظرية إلى الأدلة المادية لدعم نظريتهم. تقول بوبينر: «الأدلة الأثرية تتماشى مع ذلك. في الثمانينيات، بدأ علماء الآثار في العثور على علامات تقطيعٍ وذبح على العظام الأحفورية في شرق إفريقيا، ما يدل إلى أن البشر الأوائل كانوا يأكلون هذه الحيوانات».
تأكل العديد من القردة الأخرى اللحوم- حتى أن القردة تستخدم أدوات بسيطة للصيد- ولكن انتشار حفريات العظام المذبوحة يشير إلى أن الإنسان المنتصب، أو أسلافه المقربين، ربما أصبحوا من آكلات اللحوم الأكثر مهارة.
اقرأ أيضاً: متى وكيف اختُرع المشي؟
هل تغير سلوك الإنسان المنتصب فعلاً أم تغيرت أساليب علم الآثار؟
لكن دراسة جديدة شاركت في تأليفها بوبينر وبار، ونُشرت في دورية «الأكاديمية الوطنية للعلوم بالولايات المتحدة الأميركية» تُشكك في هذا الدليل. في حين أن الأدلة الأثرية (العظام التي تظهر عليها آثار الذبح وأدوات الصيد الحجرية) على تناول اللحوم ازدادت بشكل كبير بعد ظهور الإنسان المنتصب، يجادل مؤلفو الدراسة بأن هذه الزيادة يمكن تفسيرها إلى حد كبير من خلال زيادة الاهتمام البحثي واكتشاف المواقع في هذه الفترة الزمنية.
تقول بوبينر: «نرى بالتأكيد زيادة في عدد العظام التي بها آثار قطع. لكن ما كنا نحاول اكتشافه هو هل هذه إشارةٌ لسلوكٍ حقيقي؟ أم الأمر لا يعدو كونه اكتشاف المزيد من الحفريات المقطعة مع زيادة عمليات التنقيب؟».
للحصول على نظرة عامة على الأدلة مجدداً، عاد الفريق إلى المواقع التي يعود تاريخها إلى ما قبل 2.6 مليون إلى 1.2 مليون سنة وقاموا بإحصاء عدد الأحافير وعدد العظام التي تظهر عليها آثار التقطيع.
لو كانت نظرية «اللحم جعلنا بشراً» صحيحة، لكنا شهدنا نسبةً أعلى من العظام المقطعة بعد ظهور الإنسان المنتصب، لنقل من 10 إلى 50%. لكن بدلاً من ذلك، لم تتغير نسبة العظام المقطعة بمرور الوقت، فالمواقع التي تحتوي على عدد أكبر من العظام فيها عدد أكبر من العظام التي تظهر عليها آثار القطع أيضاً، ما يشير إلى أن البشر الأوائل كانوا يقطعون اللحوم أيضاً، لكن الباحثين المعاصرين لم يعثروا على العديد من مخابئ العظام من تلك الفترة.
يقول بار: «كان هناك الكثير من النشاط البحثي المكثف للعثور على أدلة على بدء البشر بتناول اللحوم بعد ظهور الإنسان المنتصب، بينما كان هناك جهد بحثي أقل في السابق. وتظهر دراستنا أن لذلك تأثير على مقدار الأدلة المتاحة».
اقرأ أيضاً: هل حان الوقت لتغيير الطريقة التي نتكلّم بها عن تطوّر البشر؟
زيادة أحجام أدمغة البشر وتطور استخدام المعدات
ويرتبط عدم وجود أحافير في فترة ما قبل الإنسان المنتصب أيضاً بخصائص جيولوجية معينة، كما يقول بار: «يبدو أن الوصول إلى الصخور التي تحتوي أحافير ما قبل الإنسان المنتصب أصعب في الواقع. نحن محكومون بما تسمح به لنا الطبيعة الأم وقشرة الأرض باكتشافه، بكلامٍ آخر، بما يتكشف من الرواسب على سطح الأرض».
لا تدحض الدراسة تماماً نظرية أن "اللحم جعلنا بشراً". قد تُظهر الأبحاث في مواقع أخرى في المستقبل أن البشر الأوائل لم يأكلوا الكثير من اللحوم. الأدلة المتاحة ببساطة لا تجزم بشيءٍ محدد.
يقول بيتر أنغار، عالم الأنثروبولوجيا في جامعة أركنساس وغير المشارك في البحث الجديد، والذي كتب كثيراً عن دور النظام الغذائي في التطور البشري: «تُظهر لنا الدراسة أنه في بعض الأحيان في العلم نحتاج إلى النظر بشكل نقديّ أكثر إلى مجموعات البيانات التي تتناسب مع تصوراتنا وتوقعاتنا المسبقة. تؤكد النتائج حقيقة أن تاريخ التطور البشري شديد الدقة والتعقيد بحيث لا يقدم إجابات بسيطة عن السؤال عما جعلنا بشراً».
تشمل الاحتمالات الأخرى التي كان من الممكن أن تمنح أدمغتنا مزيداً من الغذاء لتتطور أكثر، التحولات التكنولوجية، مثل الطهي، والذي يضيف المزيد من المغذيات لأدمغتنا. ويمكن أن تكون التغييرات الاجتماعية، مثل بحث البالغين عن طعامٍ أفضل لتغذية صغارهم قد ساهمت بذلك أيضاً.
يحذر أنغار من التمسك بنظرية واحدة. يقول: «لا أعتقد أن النار أو الأدوات الحجرية هي ما "جعلتنا بشراً"، لكن كل هذه الأشياء جزء من قصة وصولنا إلى مجموعةٍ متنوعة من الأطعمة لتغذية أجساد أجدادنا في ظروف كانت تتغير باستمرار».
الإنسان المنتصب هو أيضاً أول إنسان يغادر إفريقيا بلا شك، فقد عُثر على أحافيره الأولى في إندونيسيا، ومن المحتمل أنه نشأ أولاً في مكان ما في آسيا. الإنسان المنتصب لم يكن متخصصاً، وهو مثلنا، ربما تطور من خلال قدرته على العيش في ظل التغيرات الهائلة.