قارة إفريقيا هي مهد البشرية، ومع كل اكتشاف أحفوري وأثري جديد، نتعلم المزيد عن ماضينا الإفريقي المشترك. تميل الأبحاث في هذا المجال إلى التركيز على الوقت الذي انتشر فيه جنسنا البشري، الإنسان العاقل، إلى كتل اليابسة الأخرى منذ 80,000-60,000 سنة مضت. لكن ماذا حدث في إفريقيا بعد ذلك، ولماذا لا نعرف المزيد عن الأشخاص الذين بقوا؟
تساعد دراستنا الجديدة، والتي أجراها فريق متعدد التخصصات يتألف من 44 باحثاً من 12 دولة، في الإجابة عن هذه الأسئلة. من خلال سلسلة وتحليل الحمض النووي القديم الذي يعود للأشخاص الذين عاشوا منذ 18,000 عاماً، ضاعفنا تقريباً عمر الحمض النووي المسلسل من إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. تساعد هذه المعلومات الوراثية علماء الأنثروبولوجيا أمثالنا على فهم المزيد عن كيفية تحرك الإنسان الحديث واختلاطه في إفريقيا منذ زمن بعيد.
اقرأ أيضاً: بتحديد 27 مليون سلف: باحثون يرسمون أكبر شجرة عائلية للبشر
تعقب آثار ماضي البشر في إفريقيا
منذ نحو 300,000 عاماً، بدأ البشر الذين كانوا يشبهوننا في إفريقيا، وهم أقدم البشر الحديثين من الناحية التشريحية، يتصرفون أيضاً بطرق تبدو بشرية للغاية. لقد صنعوا أنواعاً جديدة من الأدوات الحجرية، وبدأوا في نقل المواد الخام لمسافات تصل إلى 400 كيلومتراً، على الأرجح من خلال شبكات التجارة. قبل 140,000-120,000 سنة مضت، صنع البشر الملابس من جلود الحيوانات، وبدؤوا تزيين أنفسهم بخرز صدفي بحري مثقوب.
بينما ظهرت الابتكارات المبكرة على نحو متقطّع، حدث تحول أكثر انتشاراً منذ نحو 50,000 عاماً، في نفس الوقت تقريباً الذي بدأ فيه البشر بالانتقال إلى أماكن بعيدة مثل أستراليا. أصبحت الأنواع الجديدة من الأدوات الحجرية والعظمية شائعة، وبدأ البشر في صنع وتبادل خرزات قشر بيض النعام. وفي حين أن معظم الفن الصخري في إفريقيا غير مؤرخ وتعرض للتلف بسبب عوامل الطقس، فإن زيادة نسب صبغة المغرة (وهي صبغة أرض طينية طبيعية عبارة عن مزيج من أوكسيد الحديديك وكميات متفاوتة من الطين والرمل) في المواقع الأثرية تشير إلى ازدهار الفن.
ما تسبب في هذا التحول، والمعروف باسم «تحول العصر الحجري المتأخر»، كان لغزاً أثرياً طويل الأمد. لماذا أصبحت بعض الأدوات والسلوكيات، والتي ظهرت حتى تلك اللحظة بطريقة مجزأة في جميع أنحاء إفريقيا، منتشرة على نطاق واسع؟ هل كان لذلك علاقة بالتغيرات في عدد الأشخاص، أو طريقة تفاعلهم؟
اقرأ أيضاً: ما الذي تخبرنا به الحفريات وعينات الحمض النووي عن تطور ذكاء البشر؟
تحدّي فهم الماضي السحيق
يعيد علماء الآثار بناء السلوك البشري في الماضي بشكل رئيسي من خلال الأشياء التي تركها البشر وراءهم، مثل بقايا وجباتهم وأدواتهم وزخارفهم، وأحياناً حتى أجسادهم. قد تتراكم هذه السجلات على مدى آلاف السنين، ما يخلق أكثر من منظور لسبل العيش اليومية التي هي في الحقيقة تمتد على مدى فترات طويلة من الزمن. مع ذلك، من الصعب دراسة الديموغرافيا القديمة، أو كيف تغير السكان، باستخدام السجل الأثري وحده.
هنا يدخل الحمض النووي المعادلة. عند الأخذ بعين الاعتبار الحمض النووي مع أدلة من علم الآثار واللغويات والتاريخ الشفوي والمكتوب، يمكن للعلماء اكتشاف كيفية تحرك البشر وتفاعلهم بناءً على المجموعات التي تشترك في أوجه التشابه الوراثية.
لكن الحمض النووي للبشر اليوم لا يمكن أن يروي القصة كاملة. لقد تغيرت الجماعات البشري الإفريقية على مدى الـ 5000 سنة الماضية بسبب انتشار الرعي والزراعة وتطور المدن والجائحات القديمة وانتشار الاستعمار والاستعباد. تسببت هذه العمليات في اختفاء بعض السلالات ودمج بعضها مع البعض الآخر، وتشكيل مجموعات سكانية جديدة.
إن استخدام الحمض النووي في الوقت الحاضر لفهم مورثات البشر القديمة يشبه قراءة رسالة تُركت تحت المطر: بعض الكلمات موجودة ولكنها غير واضحة، والبعض الآخر اختفى تماماً. يحتاج الباحثون إلى الحمض النووي القديم من البقايا البشرية الأثرية لاستكشاف التنوع البشري في أماكن وأزمنة مختلفة، ولفهم العوامل التي أثرت فيه.
لسوء الحظ، يعتبر إيجاد الحمض النووي القديم من إفريقيا صعباً بشكل خاص لأن القارة تمتد على خط الاستواء، وتؤدي الحرارة والرطوبة إلى تلف الحمض النووي. ففي حين أن أقدم عينات الحمض النووي القديم من أوراسيا تعود لـ 400,000 عاماً تقريباً، فإن جميع السلاسل من إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى حتى الآن كانت أحدث من 9000 عاماً تقريباً.
كسر «الحاجز الاستوائي»
نظراً لأن كل شخص يحمل موروثات وراثية تعود لأسلافه، فقد تمكن فريقنا من استخدام الحمض النووي الذي يعود لأفراد عاشوا قبل زمن يتراوح بين 18000 و400 عاماً لاستكشاف كيفية تفاعل البشر منذ 80,000-50,000 سنة مضت. سمح لنا هذا، لأول مرة، باختبار ما إذا كان التغيير الديموغرافي قد لعب دوراً في تحوّل العصر الحجري المتأخر.
قام فريقنا بسلسلة الحمض النووي القديم الذي يعود لـ 6 أفراد مدفونين فيما يعرف الآن بتنزانيا وملاوي وزامبيا. قارنّا هذه العينات مع الحمض النووي الذي تمت دراسته سابقاً، والذي يعود لـ 28 فرداً مدفونين في مواقع تمتد من الكاميرون إلى إثيوبيا وصولاً إلى جنوب إفريقيا. لقد أنشأنا أيضاً بيانات جديدة ومحسّنة للحمض النووي لـ 15 من هؤلاء الأشخاص، في محاولة لاستخراج أكبر قدر ممكن من المعلومات من مجموعة صغيرة من الأفراد الأفارقة القدماء الذين تم حفظ الحمض النووي الخاص بهم بشكل جيد بما يكفي للدراسة.
أدى ذلك إلى إنشاء أكبر مجموعة بيانات وراثية حتى الآن لدراسة تاريخ السكان للأفارقة القدماء الجامعين، أي الأشخاص الذين قاموا بالصيد أو جمع الطعام. استخدمنا هذه المجموعة لاستكشاف البنى السكانية التي كانت موجودة قبل التغييرات الكبيرة التي حدثت خلال بضعة الآلاف من السنين الماضية.
اقرأ أيضاً: هل أكل اللحوم هو ما جعلنا بشراً فعلاً؟
الحمض النووي يساهم في حل جدل قديم
لقد وجدنا أن البشر في الواقع غيروا طريقة تحركهم وتفاعلهم في فترة تحول العصر الحجري المتأخر.
على الرغم من أنه كانت تفصلهم آلاف الكيلومترات والسنوات، فإن جميع الأفراد القدامى في هذه الدراسة ينحدرون من نفس المجموعات السكانية الثلاث المرتبطة بمجموعات إفريقيا الشرقية والجنوبية والوسطى القديمة والحالية. يشير وجود أسلاف شرق إفريقيين في الجنوب وصولاً إلى زامبيا، وأسلاف جنوب إفريقيين إلى أقصى شمال كينيا، إلى أن البشر كانوا يتحركون لمسافات طويلة وينجبون أطفالاً مع أشخاص بعيدين عن مكان ولادتهم. الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تظهر بها هذه التركيبة السكانية هي إذا كان البشر يتحركون لمسافات طويلة على مدى آلاف السنين.
بالإضافة إلى ذلك، أظهر بحثنا أن جميع الأفارقة الشرقيين القدامى اشتركوا بعددٍ كبير غير متوقع من المورثات مع الصيادين والجامعين الذين يعيشون اليوم في الغابات المطيرة في وسط إفريقيا، ما يجعل شرق إفريقيا القديمة بوتقة انصهار وراثي. يمكننا أن نقول أن هذا الخلط والتحرك وقع بعد نحو 50,000 عاماً، عندما حدث انقسام كبير في مجموعات الجامعين في وسط إفريقيا.
لاحظنا أيضاً أن الأفراد في دراستنا كانوا أشبه وراثياً بأقرب جيرانهم الجغرافيين فقط. يخبرنا هذا أنه بعد نحو 20,000 عاماً، كان الجامعون في بعض المناطق الإفريقية يتزاوجون مع أفراد قريبين منهم بشكل حصري تقريباً. يفترض أن تكون هذه الممارسة استمرت لفترة طويلة جداً، إذ تظهر نتائجنا أن بعض المجموعات ظلت مستقلة وراثياً عن جيرانها على مدى عدة آلاف من السنين. كان ذلك واضحاً بشكل خاص في ملاوي وزامبيا، حيث حدثت العلاقات الوثيقة الوحيدة التي اكتشفناها بين الأشخاص المدفونين في نفس الوقت تقريباً وفي نفس المواقع.
لا نعرف لماذا بدأ البشر «بالعيش محلياً» مرة أخرى. قد تكون البيئات المتغيرة، مع بلوغ العصر الجليدي الأخير ذروته ثم تراجعه قبل 26,000-11,500 عاماً تقريباً، قد جعلت جمع الطعام في أماكن قريبة من مواقع السكن أمراً أكثر استدامة، أو ربما قللت شبكات التبادل المتقنة من حاجة البشر للسفر واصطحاب حاجياتهم.
من ناحية أخرى، قد تكون هويات جماعية جديدة قد ظهرت، معيدة هيكلة قواعد الزواج. إذا كان الأمر كذلك، فإننا نتوقع أن نرى زيادة في تنوّع القطع الأثرية والتقاليد الأخرى مثل الفن الصخري، مع تجمّع أنواع محددة في مناطق مختلفة. في الواقع، هذا هو بالضبط ما وجده علماء الآثار، وهو نمط يعرف باسم «الأقلمة». نحن نعلم الآن أن هذه الظاهرة لم تؤثر فقط على التقاليد الثقافية، ولكن أيضاً على تدفق المورثات.
اقرأ أيضاً: 3 أسباب تجعل آثار أقدام البشر القديمة في الساحل الغربي لجنوب إفريقيا اكتشافاً مثيراً
بيانات جديد، أسئلة جديدة
كما هو الحال دائماً، تثير أبحاث الحمض النووي القديم عدداً من الأسئلة الجديدة مع تقديم الإجابات. إن العثور على أسلاف إفريقيين في جميع أنحاء شرق وجنوب إفريقيا يدفع علماء الأنثروبولوجيا إلى إعادة النظر في مدى ترابط هذه المناطق في الماضي البعيد. هذا مهم لأن وسط إفريقيا ظل منطقة غير مدروسة بما يكفي من الناحية الأثرية، ويرجع ذلك جزئياً إلى التحديات السياسية والاقتصادية واللوجستية التي تجعل إجراء الأبحاث هناك صعباً.
بالإضافة إلى ذلك، بينما تدعم الأدلة الوراثية تحولاً ديموغرافياً كبيراً في إفريقيا قبل 50000 عاماً مضت، ما زلنا لا نعرف الأسباب الرئيسية. سيتطلب تحديد سبب حدوث تحول العصر الحجري المتأخر فحصاً دقيقاً للسجلات البيئية والأثرية والوراثية الإقليمية لفهم كيفية تطور هذه العملية عبر إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
أخيراً، تعد هذه الدراسة تذكيراً صارخاً بأنه لا يزال أمام الباحثين الكثير ليتعلموه من الأفراد والتحف القديمة الموجودة في المتاحف الإفريقية، وتسلط الضوء على الدور الحاسم لمدراء المتاحف الذين يتولون الإشراف على هذه المجموعات. في حين أنه تم إيجاد بعض الرفات البشرية التي استُخدمت في هذه الدراسة خلال العقد الماضي، كان البعض الآخر في المتاحف منذ نصف قرن.
على الرغم من أن التقدم التكنولوجي يساعدنا في فهم الحمض النووي القديم، من المهم أن نتذكر أن العلماء قد بدأوا للتو في فهم التنوع البشري في إفريقيا، في الماضي والحاضر.