ما الذي تخبرنا به الروائح القديمة عن تاريخ الإنسان؟

4 دقائق
ما الذي تخبرنا به الروائح القديمة عن تاريخ الإنسان؟
رائحة البخور القديم ستضاف إلى «مكتبة الروائح» التي أنشأها علماء الآثار. سباندان باتاناياك

الرائحة المفضلة للباحثة «باربرا هوبر» هي عطر «جاردان سور لو نيل» (حديقة على النيل) من شركة «هيرميز»، والتي تحتوي على أثر ضئيل من رائحة الحمضيات والورد، إلى جانب روائح السوسن والمسك الأساسية. يعتبر هذا العطر من العطور الكلاسيكية، ولكنه أحدث بكثير من الروائح والصموغ التي تعود إلى آلاف السنين والتي تدرسها هوبر في قسم الآثار في معهد «ماكس بلانك». قد تساعد روائح «ثلاثي التربين» والدهون الموجودة على القطع الأثرية العلماء على فهم روائح الماضي وإعادة تركيبها.   

تقول هوبر: «إنها دراسة صعبة للغاية، لأنه عندما يصل علماء الآثار إلى موقع ما لدراسته، ستكون الروائح سريعة الزوال والروائح السائلة قد اختفت»، وتضيف: «لا يمكننا شم هذه الروائح الآن، وهذا ما نعتمد عليه في دراستنا، إذ أننا نبحث عن بقايا صغيرة من المخلفات العضوية التي تعود إلى المواد القديمة، والتي كانت تمنح هذه المواد رائحتها».  

اقرأ أيضاً: لماذا تمتلك الأزهار روائحَ؟

دعوة إلى إعادة تركيب الروائح القديمة

دعت هوبر في ورقة بحثية جديدة نُشرت في دورية «نيتشر هيومن بيهيفيور» حول إعادة تركيب الروائح القديمة علماء الآثار للبحث في هذا المجال الجديد نسبياً. واستعرضت الفوائد المحتملة لإعادة تركيب روائح القطع الأثرية، وكذلك الأدوات المطلوبة لإجراء الأبحاث في هذا المجال. 

«إعادة تركيب الروائح» هي طريقة تستخدم في علم الآثار الحسي، وهي طريقة بحثية تتضمن دراسة كل قطعة في المواقع الأثرية بما يتجاوز جوانبها المرئية. إنها تُشرك الجهاز الحسي، والذي يتضمن أجزاء الدماغ المسؤولة عن الإدراك الحسيّ للعالم. من خلال إعادة إنشاء «البيئة الشميّة» (كافة الروائح التي يشعر بها الإنسان في مكان معين، والتي تتأثر بالعوامل الزمنية) للحضارات السابقة باستخدام العلوم الجزيئية، تأمل هوبر أن يتمكن علماء الآثار من التوصل إلى فهم أكثر شمولاً للحياة القديمة في أماكن مثل مصر ومدينة تيماء وغيرها.   

لإعادة تركيب روائح القطع الأثرية، يجب على هوبر وزملائها أولاً أخذ عينات من القطع الأثرية قبل استخراج الجزيئات ذات الرائحة. بعد ذلك، يتعين عليهم تحديد أنواع هذه الروائح باستخدام «أرشيف الروائح». 

قد يعيد مصطلح أرشيف الروائح إلى الذهن صوراً لصفوف من القوارير أو الأنابيب، كما هو الحال في خزينة «سفالبارد» العالمية للبذور. ولكن بدلاً من إنشاء أرشيف مادي للروائح، توضّح هوبر أن أرشيف الروائح هو مكتبة تحتوي على البيانات وعينات من القطع الأثرية. بعد تحديد أنواع الجزيئات من خلال التحليل الكيميائي، من الممكن إعادة تركيب الروائح القديمة باستخدام الأشكال الحديثة لهذه الروائح.  

اقرأ أيضاً: قد تساعدك الروائح اللطيفة في الإقلاع عن التدخين

تقول هوبر: «نسمّي هذه المكتبة "أرشيف"، ونقصد بذلك عينات التراب وقلح الأسنان والحاويات والأوعية»، وتضيف: «بالنسبة لنا، إنها بمثابة أرشيف لا يزال يحتوي على مواد ذات رائحة». 

ما الذي تخبرنا به الروائح القديمة عن تاريخ الإنسان؟
كيف كانت رائحة مطعم «هيباتشي» من القرن السابع عشر، مثل هذا المطعم المصوَّر في هذا النقش الخشبي؟ إيبيسو نو نامازويا مكتبة الكونغرس

استخدمت هوبر تقنية إعادة تركيب الروائح من قبل في دراسات سابقة، ومنها دراسة رائحة المباخر القديمة في واحة مدينة تيماء في المملكة العربية السعودية. بيّن فحص صموغ وسخام البخور الموجودة على القطع الأثرية أن سكان المستوطنة أحرقوا اللُبان (مادة صلبة تشبه الصمغ تُستخرج من جذع شجرة اللبان) ونبات المرّ والمستكة منذ ما يقرب من ألفي عام. استنتج فريق هوبر من هذه الدراسة أن واحة تيماء كانت تقع على عدة طرق تجارية، كما أن النتائج ساعدت الباحثين على تحديد الاستخدامات الاجتماعية لمختلف المركبات والروائح خلال الحياة اليومية.  

تقول هوبر: «يمكننا فهم العديد من الجوانب المختلفة، مثل التجارة والعطارة ومستحضرات الرعاية الشخصية والنظافة وممارسات الطهي، بشكل أفضل إذا درسنا التوابل وما إلى ذلك»، وتضيف: «لذا فالأمر لا يتعلق فقط بالرائحة وإعادة تركيبها. بل يتعلق أيضاً بجميع المعلومات المختلفة التي يمكننا اكتشافها عن الماضي من خلال دراسة الروائح عن كثب».  

تحليل العطور لكشف مواقع القطع الأثرية

من خلال تحليل المركبات العطرية، يمكن للباحثين تحديد الموقع الدقيق للقطع الأثرية في سجل البيئات القديمة وفي السياق الأثري بشكل أكثر سهولة. يمكن اكتشاف طقوس الشعوب القديمة والعطور والأدوية التي استخدموها والمواد التي كانوا يتاجرون بها من دراسة الروائح. ولكن ما هو تأثير ذلك على سكان العالم اليوم؟  

تقول هوبر: «إذا أرادت المتاحف إقامة معارض معينة تتضمن هذه الروائح القديمة، سيستطيع الناس تصور الماضي بطريقة مختلفة»، وتضيف: «يمكن أن يعيد ذلك إحياء الماضي بطريقة مختلفة». 

ما الذي تخبرنا به الروائح القديمة عن تاريخ الإنسان؟
تصور لوحة الفنان «بول سكارون» التي رسمت على الكتان في منتصف القرن السابع عشر حواس السمع والشم، بينما يعزف الأزواج الآلات ويشتمون الزهور. كوبر هيويت، متحف سميثسونيان للتصميم

مع ذلك، فإن التحدي المتمثل في إعادة تركيب الروائح القديمة يكمن في ربط الحقائق الكيميائية بالتجربة الحسية. قد يستلزم الأمر أكثر من تحليل القطع الأثرية وتركيب العطور لرشها في الهواء. 

اقرأ أيضاً: نصائح لتحسين حاستيّ الشم والتذوق

الارتباط الذاكري بالعطور

يرأس الأستاذ «تشارلز سبينس» مختبر أبحاث المعالجة الحسية متعددة المصادر في كلية مدينة سومرفيل التابعة لجامعة أوكسفورد، حيث يدرس علم نفس الإدراك البشري وتفاعلات الحواس. يجادل سبينس بأن الروائح مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالذاكرة والعاطفة. 

يقول سبينس: «أعتقد أن الروائح جزء من البيئة لا ندركه في أغلب الحالات، ولكنه موجود دائماً»، ويضيف: «تأثر الروائح أحياناً بشكل كبير على حالتنا المزاجية وصحتنا». 

يوضح سبينس أن ردود الفعل البشرية تجاه الروائح يتم تعلمها إلى حد كبير بدلاً من كونها معروفة بالفطرة. على سبيل المثال، أطلق الكتاب الفيكتوري الشهير «كتاب السيدة بيتون لإدارة الأسرة» صفات مثل «مسيء» أو «حاد» على الثوم. ولكن اليوم، أصبح استخدام الثوم رائجاً للغاية في المطبخ الغربي، ما يشير إلى تغيير في الإدراك العام حدث على مدى القرنين الماضيين. على هذا النحو، يحذر سبينس الباحثين من اعتقاد أنهم سيتمكنوا من الشعور بالروائح القديمة كما كان البشر القدامى يشعرون بها.   

يقول سبينس: «أعتقد أننا لا نستطيع أن نشعر بالروائح كما كان يفعل البشر القدامى». وفقاً للأبحاث الطبية الحديثة، يبدو أن أدمغة الكائنات الحية مولّفة لإدراك بعض الروائح، وسبب ذلك على الأرجح هو تجنب الخطر. ومع ذلك، فإن أدمغة الثدييات تتغير مع الاستجابات المكتسبة للمنبهات المختلفة أثناء النمو، ما يغير إدراكها للروائح الموجودة في البيئة المحيطة.   

مع ذلك، يعتقد سبينس أن شم روائح الأحداث الماضية، مثل مسيرات التوابل في وسط لندن في القرنين السادس والسابع عشر، سيكون أمراً مفيداً للغاية. وأيضاً، يمكن لتكنولوجيا إعادة تركيب الروائح أن تكشف معلومات قيمة للمؤرخين وعلماء الآثار الذين يبحثون في الحياة البشرية القديمة. 

تقول هوبر: «نريد جذب انتباه العلماء لأننا نعتقد أنه يمكننا تعلم الكثير عن الماضي عندما ندرس الروائح»، وتضيف: «آمل حقاً أن يدرك علماء الآثار أن البحث في هذا المجال هو جزء لا يتجزأ من علم الآثار». 

المحتوى محمي