يُعد الإنسان الحيوان الأكثر انتشاراً على وجه الأرض، فنحن نعيش كل مكان تقريباً، من سهول الألب الواقعة في الأنديز، وحتى مستنقعات المانجروف في دلتا ميكونغ. لقد بنينا حضارات على جزر استوائية عديدة متناثرة حول خط الاستواء، وفي التندرا شمال الدائرة القطبية الشمالية.
يقترح نموذج للأنواع البشرية والتغير المناخي، نُشر في 13 أبريل/نيسان في دورية «نيتشر»، طريقةً لفهم سبب حدوث ذلك: كان أشباه البشر (hominins) الأكثر انتشاراً- بمن فيهم نحن- هم أولئك الذين تكيفوا مع تغير المناخ.
بدأ الفريق في بناء النموذج من خلال النظر في كيفية تقلب المناخ على مدى المليوني سنة الماضية استجابةً للتقلبات الصغيرة في مدار الأرض. بعد ذلك، قاموا بتركيب مواقع الأحافير والآثار الخاصة بأنواع مختلفة على نموذج المناخ هذا لتقدير ظروف الموائل التي يمكن أن يعيش فيها كل نوع بوضوح. سمحت هذه الموائل للفريق بالتنبؤ بالنطاقات العالمية لانتشار أسلافنا. وتوافقت هذه الظروف المواتية مع المواقع الفعلية للأحافير والآثار البشرية.
كيف أثر التغير المناخي على تطور البشر؟
يقول أكسل تيمرمان، مصمم نماذج المناخ في جامعة بوسان الوطنية في بوسان في كوريا الجنوبية، والمؤلف الرئيسي للورقة البحثية: «كنت متحمساً جداً لحقيقة أنه يمكننا إثبات أن تطور المناخ في الوقت الفعلي قد أثر على المكان الذي عاش فيه الإنسان البدائي في العصور القديمة. لو اتخذ تطور المناخ مساراً مختلفاً، لوجد علماء الأنثروبولوجيا اليوم عينات أحفورية للإنسان البدائي في مناطق مختلفة أو تتوافق مع عصور مختلفة. بعبارة أخرى، تنطوي السجلات الأنثروبولوجية والأثرية على معلومات عن الظروف المناخية».
يساعد النموذج في إلقاء الضوء على الظروف البيئية المحددة التي ازدهر فيها أسلافنا، ويقدم أدلة حول المكان الذي يمكننا البحث فيه عن آثار لم تُكتشف بعد.
كان الإنسان المنتصب (Homo erectus)، والذي ظهر لأول مرة منذ نحو مليوني عام، مزدهراً في أنظمة بيئية متنوعة، مع امتداد المنطقة الصالحة للسكن من أوروبا الغربية وحتى سهوب آسيا الوسطى. يتوافق هذا التنوع مع حقيقة أنهم كانوا أول أسلافنا الذين هاجروا بشكلٍ مؤكد من إفريقيا- تم التعرف على الأنواع لأول مرة من خلال الحفريات المكتشفة في إندونيسيا. وهذا تناقض صارخ مع الإنسان العامل ( Homo ergaster) والإنسان الماهر (Homo habilis)، أقدم الأنواع المضمنة في النماذج. لقد تم العثور على حفريات هذين النوعين بشكل رئيسي على طول وادي الصدع العظيم في كينيا وإثيوبيا، وفي مرتفعات جنوب إفريقيا، لكن النموذج يقترح أنه يمكن العثور على هذه الأنواع في نطاق طويل من الموائل الصالحة للعيش تمتد عبر وسط إفريقيا، والتي تقع الآن جنوب حدود الصحراء الكبرى.
يُعتقد أن إنسان هايدلبيرغ (Homo heidelbergensis) هو أحدث سلف مشترك للإنسان الحديث وإنسان نياندرتال، حيث يبدو أنه كان في مكان ما في الوسط، متتبعاً المناطق الرطبة عبر الوادي المتصدع وحتى منطقة بلاد الشام في غرب آسيا قبل أن يجد موئلاً مناسباً في أوروبا.
يشير نطاق انتشار إنسان هايدلبيرغ أيضاً إلى أصل محدد لتطور الإنسان العاقل. وفقاً للنموذج المناخي، كان كلا النوعين متكيفين جيداً في مناخ جنوب إفريقيا في الفترة الممتدة بين 200 و300 ألف عام مضت- خلال الفترة التي دخل فيها الإنسان الحديث سجل الحفريات. لكن فترةً من الجفاف ربما ضغطت على أسلافنا، ما أدى إلى انخفاض عدد السكان وحدوث انحراف وراثي (genetic drift)، وأخيراً، تطور الإنسان الحديث.
الجفاف ملائم أكثر للبشر وفقاً للدراسات الأحفورية
يكتب المؤلفون: «وجدنا أن جنسنا البشري كان أكثر قدرةً على التعامل مع الظروف الجافة. قد يكون ذلك بسبب تكيف أجسادنا مع الجفاف، أو لأننا تكيفنا ثقافياً، ما سمح لنا ربما بالتوسع عبر القارة الإفريقية، ثم إلى بقية أنحاء العالم».
ما تزال معرفة ما إذا كان البشر قد تطوروا في مكان واحد أم لا مثار جدلٍ بين علماء الأنثروبولوجيا القديمة. تقترح نظرية أخرى أن الإنسان العاقل لم يكن لديه وطن واحد، وبدلاً من ذلك نشأ من الاندماج البطيء للسكان الأسلاف عبر القارة. لكن تيمرمان يقول إن هذا الأصل الترقيعي لا تدعمه نتائج الفريق، حيث يقول: «وفقاً لحساباتنا، لا توفر أية مناطق أخرى في جميع أنحاء إفريقيا تداخلاً كافياً في الموائل لتبرير وجود انتقالاتٍ بين الأنواع».
يقول ديني ريد، عالم الأنثروبولوجيا في جامعة تكساس في أوستن الذي يدرس التطور البشري والبيئة والذي لم يشارك في الدراسة: «تعزز الورقة بشكل كبير فرضية الروابط السببية القوية بين المناخ والأحداث التطورية البشرية». لكن لدى ريد تساؤلات حول الكيفية التي حددت بها الورقة المواقع القديمة التي تخص كل نوع.
على وجه الخصوص، تنسب الورقة أكثر من عشرة مواقع أثرية أوروبية غامضة إلى الإنسان المنتصب، الأمر الذي قد يوسع بشكل كبير النطاق الظاهري للأنواع. يقول ريد: «من الصعب التأكد دون تكرار التحليل، لكنني أشك في أن الكثير يتوقف على تلك المواقع، وكلها مؤرخة بأساليب بهوامش خطأ عالية. هل ستصمد النتائج إذا تم استبعاد هذه المواقع الأوروبية؟».
من المرجح أن يكون البحث بمثابة أساس للعمل المستقبلي حول علاقة المناخ بتطور البشر. ويقول ريد إن البحث يسلط الضوء على أهمية التحديد الواضح والمتسق للأنواع البشرية الفردية في السجل الأحفوري. وقد أشار تعليق مصاحب للمقال إلى أن التحليل استبعد العديد من أسلاف البشر الذين تم تحديدهم مؤخراً، مثل إنسان دينيسوفان الذي عاش في سيبيريا، والمعروف من خلال القليل فقط من البيانات الأحفورية أو الجينية. وبالإضافة إلى ذلك، يتأثر توزيع الأحافير المعروفة بتمويل الأبحاث والاهتمام بها، وكذلك بظروف ما قبل التاريخ، الأمر الذي يمكن أن يحرف فهمنا للمكان الذي عاش فيه القدماء حقاً. يقول تيمرمان إن الخطوة التالية ستكون محاكاة موقع الحفريات بناءً على هذه الموائل ومعرفة ما إذا كانت تلك التنبؤات تتطابق مع الواقع.
المناخ كقوة تفسيرية في التطور البشري
ومع ذلك، انتُقدت نظريات التطور البشري بسبب المبالغة في التأكيد على قوة المناخ التفسيرية فيها. غالباً ما يتم وصف إنسان نياندرتال، وهو من أقرب أقربائنا المنقرضين، في وسائل الإعلام العامة على أنه "نوع متكيف مع البرودة"، وملائم من الناحية البيولوجية للعيش في العصور الجليدية والعروض العليا. لكن عالمة الآثار ريبيكا وارج سايكس تشير في كتابها الأخير «Kindred» إلى أن إنسان نياندرتال كان ليعيش في أوروبا عندما كانت عبارة عن تندرا مفتوحة وغابات مورقة.
تقدم الورقة الجديدة حجة أكثر دقة، مفادها أن البشر كانوا بالفعل مقيدين ببيئتهم. يقول ترومان: «كان على الإنسان البدائي أن يكافح من أجل البقاء دائماً، حتى في ظل الظروف المثلى». ولكن من خلال التكيف مع عالم متغير، أصبح الإنسان العاقل نوعاً عاماً، وهو التكيف الذي سمح لنا ولأسلافنا بالانتشار في جميع أنحاء العالم بعيداً عن الأماكن التي ازدهرنا فيها لأول مرة.