كيف يؤثر التحدث بلغة أخرى على معاييرنا الأخلاقية؟

التحدث بلغة أخرى
حقوق الصورة: ماغورا/ شترستوك.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ما الذي يحدد من نحن؟ ما هي عاداتنا؟ وما أذواقنا الفنية؟ إذا كان هناك أي جزء منا يقبع في الصميم، جزءٌ أساسيّ مما نحن عليه، فمن المؤكد أنه بوصلتنا الأخلاقية؛ إحساسنا العميق بما هو صائب وما هو خاطئ. 

ومع ذلك، فإن العديد من الأشخاص الذين يتحدثون أكثر من لغة واحدة يشعرون في الغالب أنهم أشخاصٌ مختلفون قليلاً مع كل لغة يتحدثونها، على سبيل المثال أكثر حزماً في اللغة الإنجليزية، وأكثر استرخاءً وفكاهةً في العربية، وبجانب هذه الاختلافات، هل من الممكن أن تشير بوصلتنا الأخلاقية أيضاً إلى اتجاهاتٍ مختلفة نوعاً ما اعتماداً على اللغة التي نتحدث بها كل مرة؟

استرعى هذا السؤال اهتمام علماء النفس الذين يدرسون الأحكام الأخلاقية، وركزت العديد من الدراسات على كيفية تفكير الناس في الأخلاق بلغةٍ غير أصلية، كما قد يحدث على سبيل المثال مع مجموعة من المندوبين في الأمم المتحدة باستخدام لغةٍ مشتركة للتوصل إلى قرار. وتشير النتائج إلى أنه عندما يواجه الناس معضلاتٍ أخلاقية، فإنهم يستجيبون بالفعل بشكلٍ مختلف عند النظر إليها بلغة أجنبية عن استخدام لغتهم الأم.

نحن أكثر صرامة بلغتنا الأم

في ورقةٍ بحثية نُشرت عام 2014 بقيادة ألبرت كوستا، الباحث في جامعة بومبيو فابرا الإسبانية، عُرض على المتطوعين معضلة أخلاقية شهيرة تُعرف باسم “معضلة العربة”؛ تنص على افتراض وجودك في عربة قطار تتجه نحو مجموعة من خمسة أشخاص يقفون على السكة غير قادرين على الحركة، وأنت بجوار مفتاح يمكنه تحويل العربة إلى مسارٍ آخر، وبالتالي إنقاذ الأشخاص الخمسة، ولكن ذلك يؤدي إلى وفاة شخص يقف على ذلك المسار الجانبي. فهل ستسحب المفتاح؟

يتفق معظم الناس على أنهم سيفعلون ذلك. ولكن ماذا لو كانت الطريقة الوحيدة لإيقاف العربة هي دفع شخص غريب من فوق جسر للمشاة إلى مسارها؟ يميل الناس إلى التردد الشديد في القول إنهم سيفعلون ذلك، على الرغم من أنه في كلا السيناريوهين المطروحين، يتم التضحية بشخصٍ واحد لإنقاذ خمسة. لكن كوستا وزملاؤه وجدوا أن نسبة المتطوعين الذين أبدوا استعدادهم لرمي الشخص من على جسر المشاة قد قفزت من أقل من 20% عند عرض المعضلة بلغتهم الأم إلى نحو 50% عند عرضها بلغةٍ أجنبية.

تمت الدراسة بمشاركة متطوعين متحدثين أصليين باللغتين الإسبانية والإنجليزية، مع اللغتين الإنجليزية والإسبانية كلغتين أجنبيتين لكل منهما، وكانت النتائج هي نفسها لكلا المجموعتين، ما يدل على أن التأثير كان يتعلق باستخدام لغةٍ أجنبية، وليس حول لغة معينة.

وفي دراسةٍ أخرى تختلف تماماً في النهج وتتفق في الهدف، وجدت الباحثة جانيت جيبل وزملاؤها في جامعة شيكاغو الأميركية أيضاً أن استخدام لغة أجنبية قد غيّر الأحكام الأخلاقية للمشاركين. في دراستهم، قرأ المتطوعون أوصافاً لأفعالٍ يبدو أنها لا تؤذي أحداً، ولكن يجدها كثير من الناس مستهجنة من الناحية الأخلاقية. على سبيل المثال، قراءة قصة عن شخصٍ ما قام بطهي كلبه وأكله بعد ما دهسته سيارة في حادث. اعتبر أولئك الذين قرؤوا القصص بلغةٍ أجنبية -إما الإنجليزية أو الإيطالية- أن هذه الأفعال أقل خطأً من أولئك الذين قرأوها بلغتهم الأم.

اقرأ أيضاً: اللغات المحلية: كنز لا يقدّر بثمن مهدد بالاندثار

بوصلتنا الأخلاقية ضُبطت في أيامنا الأولى

ما المهم فيما إذا كنا نحكم على الأخلاق بلغتنا الأم أو بلغتنا الأجنبية؟ وفقاً لأحد التفسيرات، تتضمن مثل هذه الأحكام نمطين منفصلين ومتناقضين من التفكير، أحدهما، إحساسٌ سريع نسمّيه “الحدس”، والآخر تحكيم دقيق حول تحقيق أعظم فائدة لأكبر عدد من الأشخاص. عندما نستخدم لغة أجنبية، فإننا ننغمس دون وعي في الوضع الثاني الأكثر تأنيّاً؛ وذلك لمجرد أن الجهد المبذول لاستيعاب اللغة غير الأم يوجه نظامنا المعرفي للاستعداد للنشاط الشاق. قد يبدو الأمر مفارقةً، ولكنه يتماشى مع النتائج التي تفيد بأن قراءة مسائل الرياضيات بخط تصعب قراءته تجعل الناس أقل عرضةً لارتكاب أخطاء سببها الإهمال (على الرغم من صعوبة تكرار هذه النتائج).

التفسير البديل هو أن الاختلافات تنشأ بين اللغات الأصلية والأجنبية لأن لغات طفولتنا ترتبط بقوة عاطفية أكبر من تلك التي تعلمناها في الأوساط الأكاديمية. ونتيجةً لذلك، فإن الأحكام الأخلاقية الصادرة عن لغة أجنبية تكون أقل ثقلاً بردود الفعل العاطفية التي ترافق استخدام لغة نتعلمها في مرحلة الطفولة.

هناك دليلٌ قوي على أن الذاكرة تربط اللغة بالخبرات والتفاعلات التي تم من خلالها تعلم تلك اللغة. على سبيل المثال، من المرجح أن يتذكر الأشخاص الذين يتحدثون لغتين تجربة ما إذا طُلب منهم ذلك باللغة التي وقع بها هذا الحدث. لغات طفولتنا، التي تعلمناها في خضم عاطفة جامحة تصبح مشبعة بمشاعر عميقة. وبالمقارنة، تدخل اللغات المكتسبة في وقتٍ متأخر من الحياة خاصةً إذا تم تعلمها من خلال تفاعلات مقيدة في الفصول الدراسية أو تم تقديمها بطريقة لطيفة عبر شاشات الكمبيوتر وسماعات الرأس- إلى أذهاننا خاليةً من العاطفة الموجودة لدى المتحدثين الأصليين.

اقرأ أيضاً: لماذا يثق الأشخاص بالذين يتكلمون بنفس لهجتهم حتى عندما لا ينبغي عليهم ذلك؟

أخلاق مشحونة عاطفياً

تقدم كاثرين هاريس وزملاؤها في جامعة بوسطن الأميركية أدلةً دامغة على الاستجابات العميقة التي يمكن أن تثيرها اللغة الأم باستخدام الموصلية الكهربائية للجلد لقياس الإثارة العاطفية، والتي تزيد مع زيادة الأدرينالين. كان لديهم ناطقين باللغة التركية تعلموا اللغة الإنجليزية في وقتٍ متأخر من الحياة يستمعون إلى الكلمات والعبارات في كلتا اللغتين. كان بعضها محايداً -مثل طاولة- بينما كان البعض الآخر من المحرمات -كلمات بذيئة- أو توبيخاً مثل “عارٌ عليك!”.

كشفت ردود المشاركين الجلدية عن زيادة الإثارة للكلمات المحظورة مقارنة بالكلمات المحايدة، خاصةً عندما يتم التحدث بها بلغتهم الأصلية التركية. لكن الاختلاف الأقوى بين اللغات كان أكثر وضوحاً في التوبيخ؛ حيث استجاب المتطوعون بشكلٍ معتدل للعبارات الإنجليزية، لكن كانت ردود أفعالهم قوية جداً تجاه العبارات التركية، حيث ذكر البعض أنهم “سمعوا” هذه التوبيخات بأصوات أقربائهم المقربين. إذا كانت اللغة يمكن أن تكون بمثابة حاويةٍ للذكريات القوية عن تجاوزاتنا وعقوباتنا في أيامنا المبكّرة، فليس من المستغرب أن مثل هذه الارتباطات العاطفية قد تلوّن الأحكام الأخلاقية الصادرة في لغتنا الأم.

دعمت دراسة أخرى نُشرت في دورية “المعرفة” (Cognition) هذا التفسير، إذ تضمن هذا البحث سيناريوهات أدت فيها النوايا الحسنة إلى نتائج سيئة؛ مثل أن يعطي شخص ما شخصاً بلا مأوى سترة جديدة، ليُضرب الرجل الفقير من قبل الآخرين الذين يعتقدون أنه سرقها، أو حدثت نتائج جيدة على الرغم من وجود الدوافع المشبوهة؛ مثل زوجان يتبنيان طفلاً من ذوي الاحتياجات الخاصة لتلقي أموال من الدولة.

أدت قراءة المشاركين في الدراسة لهذه السيناريوهات بلغةٍ أجنبية بدلاً من اللغة الأصلية إلى جعلهم يضعون وزناً أكبر للنتائج ويقللون من أهمية النوايا في إصدار أحكام أخلاقية. وتتعارض هذه النتائج مع الفكرة التي ذكرناها مسبقاً القائلة بأن استخدام لغة أجنبية يجعل الناس يفكرون بشكلٍ أعمق، لأن أبحاثاً أخرى أظهرت أن التفكير الدقيق يجعل الناس يفكرون أكثر في النوايا التي تكمن وراء أفعال الناس وليس العكس.

لكن النتائج تتماشى مع فكرة أنه عند استخدام لغة أجنبية، فإن الاستجابات العاطفية الصامتة -أي تعاطف أقل مع أصحاب النوايا النبيلة، وغضب أقل لمن لديهم دوافع شائنة- قللت من تأثير النوايا. ويتم تعزيز هذا التفسير من خلال النتائج التي تفيد بأن المرضى الذين يعانون من تلف دماغي في القشرة الأمامية الجبهية البطنية؛ وهي منطقة تشارك في الاستجابة العاطفية، أظهروا نمطاً مشابهاً من الاستجابات، مع تركيز على النتائج أكثر من النوايا.

ما هي إذاً الذات الأخلاقية “الحقيقية” لشخص متعدد اللغات؟ هل ذكرياتي الأخلاقية، وأصداء التفاعلات المشحونة عاطفياً هي التي علمتني ما يعنيه أن تكون “جيداً”؟ أم أنه المنطق الذي يمكنني تطبيقه عندما أتخلى عن هذه القيود اللاواعية، أو ربما كلاهما، وأن بوصلتنا الأخلاقية هي مزيج من العوامل الأولى التي شكّلت شخصياتنا والطرق التي تعاملنا بها معها؟