لماذا لا تعد الحياة البسيطة جميلة وحسب، بل ضرورية؟

الحياة البسيطة
حقوق الصورة: شترستوك.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

الحياة الجيدة هي الحياة البسيطة. ومن بين عشرات الأفكار الفلسفية حول الكيفية التي يجب أن نعيش بها، كانت هذه من أوائل تلك الأفكار وأكثرها انتشاراً. من سقراط إلى ثورو، ومن بوذا إلى ويندل بيري، ظلّ المفكرون يدعون إليها منذ أكثر من ألفي عام.

خلال التاريخ البشري الطويل، لم تكن بساطة العيش اختياراً، بل ضرورة. ولذا، اعتبرها البعض فضيلةً أخلاقية. ولكن مع ظهور الرأسمالية الصناعية والمجتمع الاستهلاكي، نشأ نظامٌ ملتزم بالنمو الذي لا هوادة فيه، ومعه نما عددٌ كبيرٌ من السكان -يُدعون “السوق”- والذين تم تمكينهم وتشجيعهم على شراء الكثير من الأشياء التي تفيض عن المتطلبات بناءً على معايير تقليدية ومجتمعية. ونتيجةً لذلك، حدث انفصالٌ بين القيم التقليدية التي ورثناها والضرورات الاستهلاكية التي غرستها الثقافة المعاصرة فينا.

اقرأ أيضاً: نصائح تساعدك على عيش الحياة بسعادة

إعجابٌ نظري بالبساطة

في عصور ما قبل الحداثة، لم يكن التناقض بين ما ينصح به الفلاسفة وطريقة عيش الناس كبيراً، إذ وفرت الثروة الأمان، ولكن حتى بالنسبة للأثرياء، كانت الثروة مجرد حماية واهية من مصائب مثل الحرب والمجاعة والمرض والظلم واضطهاد الطغاة، فمثلاً حكم نيرون على الفيلسوف الرواقي سينيكا، الذي كان أحد أغنى الرجال في روما، بالإعدام. أما بالنسبة للغالبية العظمى -العبيد والفلاحين والعمال- فلم يكن لديهم أي احتمال لجمع حتى ثروةً متواضعة.

وقبل ظهور الزراعة القائمة على الآلة، والديمقراطية التمثيلية، والحقوق المدنية، والمضادات الحيوية والأسبرين، كان مجرد عيش حياةٍ طويلة دون الكثير من المعاناة يعد أمراً جيداً لا يحصل عليه الكثيرون. لكن اليوم، في المجتمعات المزدهرة على الأقل، يريد الناس ويتوقعون القيام بالكثير من الأعمال والحصول على الكثير من الممتلكات، ما جعل العيش ببساطة يصيب الكثير من الناس بالإحباط لكونه “مملاً”، بحسب اعتقادهم.

ومع ذلك، يبدو أن هناك اهتماماً متزايداً، خاصة بين أبناء جيل الألفية -الذين ولدوا بين عامي 1981 و 1996- بإعادة اكتشاف فوائد الحياة البسيطة. وقد يعكس بعض هذا نوعاً من الحنين إلى عالم ما قبل الصناعة أو ما قبل الاستهلاكية، وأيضاً التعاطف مع الحجة الأخلاقية التي تقول إن العيش بطريقة بسيطة يجعلك شخصاً أفضل؛ من خلال بناء سماتٍ مرغوبة مثل الاعتدال في الإنفاق والمرونة والاستقلالية، أو حتى أكثر من ذلك، يجعلك شخصاً أكثر سعادة من خلال تعزيز راحة البال والصحة الجيدة، وإبقائك قريباً من الطبيعة، ما يجعلك تقدّر قيمتها بشكلٍ أكبر وتبذل مزيداً من الجهد بالحفاظ عليها.

جميعها حججٌ معقولة. ولكن على الرغم من الاحترام الذي تفرضه تعاليمها، فقد أثبت سلوك الناس أنفسهم أنها غير مقنعةٍ كثيراً. إذ يتسابق الملايين منا للحصول على تذاكر اليانصيب وإنفاقها في حال الفوز، والعمل لساعات طويلة، ومراكمة الديون، والسعي على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع في محاولة البحث عن سُبل لزيادة الممتلكات. لماذا كل هذا؟

إحدى الإجابات الواضحة هي النفاق غير الواعي الراسخ في النفس البشرية. نحن نمجد الفلسفة المقتصدة بينما نتجاهل مبادئها في حياتنا اليومية. نحن نثني على أسلوب الحياة البسيط، ونشيد بنزاهة معتنقيه وحكمتهم، لكننا نأمل أيضاً ونشجع النمو الاقتصادي المدفوع بالطلب على المنازل الكبيرة والسيارات الفاخرة وغيرها من السلع الباهظة التي قد لا نحتاجها.

لكن المشكلة ليست فقط أن ممارستنا تتعارض مع معتقداتنا المعلنة، فتفكيرنا في البساطة والرفاهية، والاقتصاد والإسراف، غير متّسقٍ في الأساس. نحن نُدين الإسراف الذي لا طائل منه، ومع ذلك نحن نمجد آثار البذخ في الماضي، مثل قصر المعشوق في سامراء، أو القبور المكسوّة بالذهب في مصر، أو قصر فيرساي في فرنسا، ونَصفها بأنها مثيرةً للإعجاب. هي كذلك حقاً، لكن الكثير مما نسميه “الثقافة” تغذى بشكلٍ أو بآخر على الإسراف.

ومن المفارقات إلى حدٍّ ما أن قضية العيش ببساطة كانت أكثر إقناعاً عندما لم يكن لدى معظم الناس خيار سوى العيش بهذه الطريقةـ، فتدور الحجج التقليدية لتبرير هذا النوع من الحياة حول قلة الخيارات المتاحة. لكن نفس الحجج يكون وقعها أقل عندما تكون حياة البساطة المقتصدة خياراً، وطريقةً واحدة للعيش بين طرق عدة حينها يصبح من الصعب ترسيخ فلسفة البساطة.

اقرأ أيضاً: الحياة في المدينة تضر بالصحة النفسية بطرقٍ بدأنا للتو في فهمها

نسيم التغيير

قد يكون هذا على وشك التغير تحت تأثير عاملين: الاقتصاد وحماية البيئة. عندما يحدث الركود، كما حدث مؤخراً خلال أزمة كورونا التي عصفت بالاقتصاد العالمي، حيث كُشف عدم الاستقرار المتأصل في نظام اقتصادي ملتزم بالنمو اللامتناهي، يجد الملايين من الناس أنفسهم فجأةً في ظل ظروف يصبح فيها التوفير، مرةً أخرى، ضرورة، يجري اكتشاف قيمة الفضائل المرتبطة بها ثانية.

وفي المجتمعات الصاخبة والمتسارعة مثل الولايات المتحدة في الغرب، أو التي تشهد نمواً تكنولوجيّاً واقتصاديّاً متسارعاً في المنطقة، نشهد حالياً ميلاً لتوسيع الفجوة بين من “لديهم الكثير” و”الذين لا يملكون شيئاً”. هذه التفاوتات المتزايدة تستدعي نقداً جديداً للإسراف والتبذير، فعندما يعيش الكثير من الناس تحت خط الفقر، تصبح مظاهر البذخ والرفاهية غير لائقةٍ كثيراً.

علاوةً على ذلك، فإن التوزيع غير المتوازن للثروة يمثل أيضاً فرصة ضائعة. ووفقاً لأبيقور وفلاسفة البساطة الآخرين، يمكن للمرء أن يعيش بشكل جيد جداً بشرط تلبية بعض الاحتياجات الأساسية، وهي وجهة نظر أيدها عالم النفس أبراهام ماسلو في “التسلسل الهرمي للاحتياجات” في العصر الحديث.

إذا كان هذا صحيحاً، فهذه حجة لاستخدام فائض الثروة للتأكد من أن كل شخص لديه الأساسيات مثل الطعام والسكن والرعاية الصحية والتعليم والمرافق والنقل العام بتكلفةٍ منخفضة، بدلاً من السماح بتكديسها داخل عدد قليلٍ من الجيوب الخاصة.

وبغض النظر عن كلام الحكماء الأقدمين، لم يكن ليخطر ببال سقراط أو أبيقور أن يجادلوا في الحياة البسيطة من منظور حماية البيئة. لقد ترك لنا قرنان من التصنيع والنمو السكاني والنشاط الاقتصادي المحموم الكثير من الضباب الدخاني، تلوث البحيرات والأنهار والمحيطات، نفايات سامة، إزالة الغابات، انقراض بعض الأنواع النباتية والحيوانية وتهديد بعض آخر، الاحتباس الحراري، وقارةً بلاستيكيةً تسبح في المحيط الهادي غرب ولاية كاليفورنيا. وعليه، تعبّر فلسفة البساطة المقتصدة عن قيمٍ تدعو إلى أسلوب حياةٍ قد يكونا آخر أملٍ لنا لعكس هذه الاتجاهات، والحفاظ على النظم البيئية الهشة لكوكبنا.

لا يزال كثير من الناس غير مقتنعين بهذا. ولكن إذا ثبتَ للجميع أن أساليبنا الحالية في التصنيع والجَني والإنفاق غير مستدامة، فقد يأتي وقت -وقد يأتي قريباً- نضطر فيه لللجوء إلى البساطة. وفي هذه الحالة، سوف تتحول هذه الفلسفة التقليدية إلى فلسفة المستقبل.