عندما تشكّلت النجوم والمجرات الأولى في الكون، فهي لم تقم بإضاءة الكون فحسب؛ إذ غيّرت هذه البنى الساطعة أيضاً التركيب الكيميائي للكون بشكل جذري.
خلال ذلك الوقت، اكتسب غاز الهيدروجين الذي يشكّل اليوم النسبة الأكبر من المواد الموجودة في الفضاء بين المجرات شحنة كهربائية. وفقاً لبرانت روبرتسون (Brant Robertson)، باحث يرأس مجموعة أبحاث علم الفلك الحاسوبي في جامعة كاليفورنيا سانتا كروز، كانت حقبة إعادة التأيّن هذه، كما يدعوها الفيزيائيون، "إحدى آخر التغيّرات الكبرى التي حدثت في الكون". مثّلت هذه الحقبة بداية الكون كما نعرفه اليوم.
لكن لم يتمكّن العلماء من رصد ما حدث خلال حقبة إعادة التأيّن بالتفصيل، حتى الآن. يساعد تلسكوب جيمس ويب الفضائي التابع لوكالة ناسا والذي تم تشغيله حديثاً في فهم هذه الحقبة الغامضة التي منحت كوننا شكله الحالي. يدرس علماء الفلك مثل روبرتسون البيانات التي يوفّرها تلسكوب جيمس ويب بحثاً عن أجوبة لبعض الأسئلة الأساسية المتعلقة بهذه الحقبة، وما يمكن أن نتعلّم منها عن الديناميكيات الأساسية في الكون.
ماذا حدث بعد الانفجار العظيم؟
لم تكن حقبة إعادة التأيّن المرة الأولى التي يمتلئ فيها الكون بالجسيمات والذرات المشحونة. بعد الانفجار العظيم مباشرة، كان الكون مظلماً وساخناً، ولم تكن هناك أي نجوم أو مجرات أو كواكب. بدلاً من ذلك، كانت الإلكترونات والبروتونات تعوم بحريّة؛ إذ كان الكون أكثر كثافة وسخونة من أن يسمح لها بالارتباط وتشكيل الذرات.
تقول آن هاتر (Anne Hutter)، باحثة في مرحلة ما بعد الدكتوراة في مركز الفجر الكوني (Cosmic Dawn Center)، وهو مركز بحثي تعاوني يديره كلٌّ من معهد الفضاء الدولي التابع لجامعة الدنمارك التقنية وجامعة كوبنهاغن، إنه مع انخفاض درجة الحرارة، بدأت البروتونات بالارتباط بالإلكترونات لتشكيل أولى الذرات (الهيدروجين تحديداً) في حقبة تحمل اسم إعادة الارتباط. وتسببت هذه العملية بإزالة المادة المؤيّنة من الكون.
كانت المواد الموجودة في الكون موزّعة بشكل متجانس نسبياً في ذلك الوقت، ولم تكن هناك الكثير من البنى. لكن كانت هناك تقلّبات طفيفة في الكثافة. وعلى مدى مليارات السنين، تسببت هذه التغيّرات بانجذاب الذرات لبعضها وتجمّعها، ما تسبب بتشكّل النجوم في نهاية المطاف. تسبب جاذبية النجوم المبكرة بتجمّع المزيد من الغازات والجسيمات والمكونات الأخرى، ما أدى إلى تشكيل المزيد من النجوم وتشكيل المجرات في نهاية المطاف.
اقرأ أيضاً: تحليل يسد فجوة 11 مليار سنة من تاريخ توسع الكون
بمجرّد تشكل أولى المجرات وإصدارها للضوء، انتهى العصر المظلم الكوني (كما يدعوه علماء الفلك). يقول روبرتسون إن هذه الأجرام النجمية كانت ساطعة بشكل خاص؛ إذ إن كتلتها كانت أكبر بكثير من كتلة الشمس، وكانت ساخنة للغاية وتصدر إشعاعات ضمن الطيف فوق البنفسجي.
يضيف روبرتسون: "يستطيع الضوء فوق البنفسجي تأيين الهيدروجين إذا كانت طاقته عالية بما يكفي". كل ما يتطلّبه الأمر هو أن ينتزع جسيم ضوء (فوتون) واحد ذو طاقة عالية بما يكفي إلكتروناً من ذرة هيدروجين ليُكسبها شحنة كهربائية موجبة.
مع تشكّل المجرات، بدأت هذه البنى هائلة الحجم بتأيين المناطق المحيطة بها. ما تسبب بتشكّل فقاعات من غاز الهيدروجين المشحون عبر الكون. ومع ازدياد حجم هذه العناقيد المجرية المصدرة للضوء، تشكّلت المزيد من النجوم التي جعلتها أكثر سطوعاً وزادت من نسبة الفوتونات فيها. بدأت المجرات الجديدة بالتشكّل أيضاً. وعندما بدأت بإصدار الضوء، تسببت أيضاً بتشكيل فقاعات مؤيَّنة، والتي بدأت بدورها بالتقاطع مع الفقاعات الأخرى. يقول روبرتسون إن ذلك سمح للفوتونات الموجودة في إحدى المجرات "بالانتقال لمسافات أكبر بكثير لأنها لم تصطدم بذرات الهيدروجين في أثناء عبورها خلال شبكة الفقاعات هذه".
عندها، تأيّن الوسط بين المجرات بسرعة، حتى في المناطق البعيدة عن المجرات. انتهت حقبة إعادة التأين في ذلك الوقت، وأخذ الكون الشكل الذي نعرفه اليوم.
يقول روبرتسون: "كانت هذه المرة الأخيرة التي تتغيّر فيها خصائص الكون بالكامل"، ويضيف: "كما أنها كانت المرة الأولى التي أثّرت فيها المجرات في مناطق أبعد من محيطها المباشر".
اقرأ أيضاً: حبيبات قديمة من الغبار الكوني قد تخبرنا تاريخ نشأة مجرتنا
بحث تلسكوب جيمس ويب عن دلائل التأيّن
مع اكتساب الهيدروجين الموجود بين المجرات شحنة كهربائية، دخل الكون في مرحلة جديدة من التكوين. تسبب هذا التأين بآثار بعيدة المدى على تشكّل المجرات. وعلى الأرجح أنه أثّر على أي بنى تحتوي على النجوم تشكّلت بعد حقبة إعادة التأيّن.
تقول هاتر: "إذا تأيّن الغاز، فسيكتسب الحرارة". إن ارتفاع درجة الحرارة يجعل تجمّع المواد لتشكيل النجوم والكواكب الجديدة أكثر صعوبة. كما أنه قد يفكك الغازات الموجودة. نتيجة لذلك، واجهت المجرات الصغيرة التي تشكّلت في مناطق مؤيّنة صعوبة في تجميع ما يكفي من الغاز لتشكيل المزيد من النجوم. تقول هاتر: "أثّر ذلك بشكل كبير على عدد النجوم التي كانت المجرات تشكّلها"، وتضيف: "ما أثر على تاريخ هذه النجوم بأكمله".
على الرغم من أن العلماء توصلوا إلى فهم للخطوط العريضة لحقبة إعادة التأين، فإن هناك بعض الأسئلة المهمة التي لم تتم الإجابة عنها. على سبيل المثال، على الرغم من أنهم يعلمون أن هذه الحقبة انتهت بعد نحو مليار سنة من الانفجار العظيم، فإنهم ليسوا متأكدين تماماً من الوقت الذي بدأت فيه هذه الحقبة، وبالتالي فإنهم غير متأكدين من الوقت الذي تشكّلت فيه المجرة الأولى.
وهنا يدخل تلسكوب جيمس ويب المعادلة. صُمم هذا التلسكوب الفضائي بطريقة تجعله قادراً على رصد أقدم مناطق الكون غير المرئية بالنسبة للبشر، بالإضافة إلى تجميع البيانات المتعلقة بأول بصيص من ضوء النجوم والذي تسبب بتأيّن الوسط بين المجرات. يرصد علماء الفلك أغلب الأجرام السماوية من خلال الإشعاع الذي تصدره. وتميل الأجرام الأبعد لإصدار إشعاع يقع في الطيف تحت الأحمر. ويعود ذلك إلى أن المسافة تُمدد الأطوال الموجية لهذا الإشعاع وتجعلها أكبر. مع توسّع الكون، يستغرق وصول الضوء إلى حساسات تلسكوب جيمس ويب مليارات السنين.
اقرأ أيضاً: ناسا تنشر صوراً مذهلة من تلسكوب جيمس ويب الفضائي لأعماق الكون
وهذه باختصار هي الطريقة التي يستخدم بها العلماء تلسكوب جيمس ويب لرصد المجرات الأولى التي أيّنت الكون. على الرغم من أن الأدوات الأقدم مثل تلسكوب هابل الفضائي كانت قادرة على رصد المجرات المبكرة من حين لآخر، فإن تلسكوب جيمس ويب الجديد يستطيع تجميع بيانات أكثر تفصيلاً لتحديد عمر النجوم.
يقول روبرتسون: "الآن، أصبحنا قادرين على تحديد عدد المجرات التي كانت موجودة في الفترة بعد 900 مليون سنة من الانفجار العظيم وحتى 300 مليون سنة بعد تشكّل الكون". باستخدام هذه المعلومات، يستطيع علماء الفلك حساب عدد الفوتونات المؤيِّنة التي كانت موجودة في تلك الفترة الزمنية واكتشاف الطريقة التي أثرت فيها هذه الجسيمات بمحيطها.
لا يتعلّق فهم حقبة إعادة التأين بفهم البنى كبيرة الحجم في الكون فقط، بل هو يساعدنا على اكتشاف الوقت الذي أصبحت العناصر التي تشكّلنا، مثل الكربون والأوكسجين، متوفرة مع تشكّلها داخل النجوم الأولى. تقول هاتر: "السؤال" المهم فعلاً هو ما هو الأصل الكوني للبشر؟