من بعثات أبوللو الستة، عاد رواد الفضاء إلى الأرض بأكثر من 380 كيلوجرام من تراب القمر وصخوره. وقد أُتيحَت نسبة كبيرة من هذه العينات للبحث العلمي فور وصولها، لكن ناسا اتخذت قراراً حكيماً بتخزين كمية غير قليلة من العينات، انتظاراً لمستقبلٍ تتقدم فيه تقنيات التحليل والبحث، وتنفتح فيه أمام الأجيال القادمة آفاقٌ جديدة لفهم المزيد عن تابع الأرض وجارها الوحيد.
لكن هذه العينات المتبقية سترى النور أخيراً للمرة الأولى منذ نصف قرن. فقد أعلن "جيم برايدِنستاين" - المدير الحالي لوكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" - في خطابه يوم الإثنين الماضي حول ميزانية عام 2020 المقترحة، أن الوكالة قد قررت إرسال ثلاث كميات من العينات الجديدة إلى تسع معاهد بحثية أمريكية مختلفة لتخضع هناك -للمرة الأولى- للفحص والتحليل. ومن المرجو أن تكشف نتائج الفحص المزيد من المعلومات عن جيولوجيا القمر وتطوُّرها عبر ملايين السنين، وتعزز من رؤيتنا الحالية للقمر، ومعرفتنا بما يجب أن نبحث عنه عندما نزور القمر مجدداً في العقد المقبل.
وقد صرّح "برايدِنستاين" في خطابه أمام الحضور بمركز كينيدي للفضاء في فلوريدا: "لقد عَلِمَت الأجيال السابقة التي عملَت في بعثات أبوللو أن تقنيات عصرنا هذا ستختلف تماماً عن التقنيات التي كانت متاحة لديهم، ولهذا فقد عزموا على حفظ بعض العينات مُغلقة. وأود حقاً أن أتوجه لهم بكل الشكر، إن كان هذا ممكناً، على ادخار هذه العينات لنا، ومنح جيلنا هذه الفرصة".
بالطبع لا تتوفر لدينا للدراسة - هنا على الأرض - سوى كميات محدودة من العينات القمرية، ولهذا فقد التزمَت ناسا سياسة ترشيدية للغاية طوال السنوات الماضية. لكن العزم الذي عقدَته ناسا على تجديد زيارتنا للقمر قريباً يبشرنا بإطلاق سراح المزيد من العينات لأغراض البحث العلمي. يقول "برايدِنستاين": "العينات القمرية التي ستتاح قريباً ستخبرنا عن القمر بالمزيد والمزيد مما لم نكن نعلم".
كانت العينات المحفوظة كلها قد جُمعت من بعثات أبوللو 15 و16 و17، ولم يتعرض منها شيء قط لأجواء الأرض، وإنما حُفظَت بوسائل مختلفة. فهناك على سبيل المثال تلك العينة من أبوللو 17 من صخور جوف القمر التي تحتوي على طبقات صخرية متراتبة (صخور طِباقية) بكتلة تتجاوز 800 جرام بقليل. وهي محفوظة في إناء مفرَّغ تماماً من الهواء منذ قدومها إلى الأرض في عام 1972، وستُرسَل إلى سِت معاهد من التسعة المختارة للدراسة. وهناك أيضاً عينة من أبوللو 15 محفوظة في الهيليوم منذ عام 1971 ستخضع لفحوصات فريق بحثي آخر. وقد حُفظَت بعض العينات بالتجميد منذ وصولها إلى الأرض، بينما حُفظ البعض تحت درجات الحرارة العادية في وحدات تخزين شديدة الإحكام.
ستقود "كيت بِرجِس" -الباحثة بمعمل أبحاث البحرية الأمريكية- فريقاً بحثياً لدراسة العينات المحفوظة بالتجميد وبالهيليوم، لملاحظة آثار ما يُسمَّى بالتجوية الفضائية، وهي التأثيرات التي يتعرض لها جسم فضائي لا يملك غلافاً جوياً مثل القمر جراء التعرُّض المستمر للأشعة الكونية والرياح الشمسية والقصف المستمر بالنيازك. تقول "بِرجِس": "هذا التوقيت هو الأنسب لإطلاق سراح العينات القمرية من ناسا، فقد شهدَت التقنيات والمعدات المستخدمة في فحص العينات تقدُّماً هائلاً عبر العقد المنصرم، وما نملكه منها الآن قادر بلا شك على إمدادنا ببيانات يمكن الوثوق بها والاعتماد عليها".
ويعد العاملان الأهم تأثيراً في عمليات التجوية الفضائية هُما التعرُّض الإشعاعي للرياح الشمسية (والذي يسبب احتجاز الهيدروجين والهيليوم في طبقات السطح الخارجي للقمر) والتعرُّض للقصف النيزكي. ولهذه العمليات تأثيرات ضخمة على تشكيل الطبقات الخارجية لسطح القمر. تقول "بِرجِس": "إحراز تقدُّمٍ في فهم أسباب وكيفيات حدوث هذه التغييرات، سيمنحنا فرصاً أكبر في التنبؤ بتركيب وتاريخ الأسطُح التي لا نملك عيناتٍ منها، مثل العديد من أجزاء القمر والعديد من الكويكبات".
وتتطلب الأبحاث من هذا النوع استخدام معدات مجهرية وتقنيات قياسات طيفية تستطيع سبر أغوار الخصائص الفيزيائية والكيميائية لمكوِّنات التُّربة، والإخبار بتفاصيل التغيُّرات والتشوُّهات الناتجة عن التجوية الفضائية. وبالفعل فإن الأدوات التي تمتلك الدقة اللازمة لإجراء تلك الأبحاث لم تكن قد توفرَّت للباحثين إلا في السنوات العشرة المنقضية. بل إن القدرة التكنولوجية على قياس كميات الهيدروجين والهيليوم المُحتَجَزة في الجيوب النانوية من العينات الفضائية لم تصبح متاحةً –رغم أهميتها المحورية للأبحاث– سوى في الخمس سنين الأخيرة، على حد قول "بِرجِس" التي لم تحصل مع فريقها البحثي على قياسات ناجحة من العينات القمرية إلا في العام الماضي فقط.
لم تؤكد "بِرجِس" وحدها على أفضال التقنيات التي وصلنا إليها اليوم، فالباحث "تشارلز شيرَر" – من جامعة نيو مكسيكو – سيقود بدوره دراسةً على عينات أبوللو 17 المحفوظة في آنية مُفرَّغَة من الهواء، والتي تم جمعها من منطقة قمرية شديدة البرودة تتجمد فيها المياه. وتعتبر عينات "المصائد الباردة" من هذا النوع شديدة التفرُّد والخصوصية لدرجة أن شيئاً مثلها لم يكن قد خضع قبل اليوم للدراسة المعملية. يأمل "شيرر" في استخدام تقنيات البحث الحديثة في جمع معلومات جديدة عن الصخور القمرية، وعن دورة العناصر المتطايرة -وهي المواد التي تتبخر بسهولة، كالماء- في القمر. بالطبع سيلعب التقدُّم التقني في المجالات المجهرية والطيفية دوراً رئيساً في الوصول إلى تفاصيلٍ لم يكن التوصّل إليها ممكناً في العقد الماضي، والسماح لفريق البحث بالاطلاع على أدق تفاصيل الصخور القمرية.
يقول "شيرر": "طوال السنوات العشر الماضية كنتُ ضمن المطالبين بإتاحة هذه العينات للدراسة، وخلال هذا الوقت عملتُ مع ناسا على تطوير استراتيجيات للتعامل مع العينات. ولهذا أسعدني للغاية أن تؤتِي كل تلك الجهود ثمارها أخيراً وأن تُكلَّل بقرار إتاحة العينات للباحثين، الذي استقبلناه مؤخراً بترحابٍ كبير. من المهم أن ندرك أن كل عينة من هذه العينات ستكشف لنا من المعارف ما سيوفِّر علينا جهوداً وأموالاً طائلة في رحلة عودتنا المُزمَعَة إلى القمر".
من المؤكد أن هذه المشروعات البحثية ستمنحنا الكثير من المعلومات عن تاريخ القمر، لكننا نريد أيضاً الكشف عن كل ما قد يساعدنا في تطوير أفكارنا، ويضيف إلى خططنا الخاصة برحلة العودة المستقبلية. يقول "شيرر": "ربما ستعتمد خطط استكشافنا للقمر في مهمتنا القادمة – وبالتالي كل ما سنقوم به طوال فترة إقامتنا هناك – بشكلٍ كبير على ما ستخبرنا به هذه العينات".
تشير "بِرجِس" إلى أن عمل فريقها البحثي سيخطو بنا نحو فهمٍ أفضل للتعامل مع الأجرام السماوية التي لا تمتلك أغلفةً جوية وتبقى طوال الوقت في احتكاك مباشر بالفضاء، مثل القمر والكويكبات؛ وهي الأجرام التي يطمح البشر إلى استغلالها سواءً بالتعدين، أو بإنشاء مراكز مراقبة دائمة على أسطحها. ويؤمِن "شيرر" وزميله "كيس وِلتِن" – الباحث بجامعة كاليفورنيا بركِلي وقائد فريق بحثي يستقصي آثار ارتطام النيازك بالقمر– بأن جهوداً بحثية كتلك ستؤدي حتماً إلى تحسين تقنيات جمع العينات لأغراض الدراسات المستقبلية، سواءً من القمر أوغيره من أجرام مجموعتنا الشمسية.
وهناك مشروعات بحثية أخرى ستستخدم العينات القمرية لأغراضٍ أخرى؛ مثل استكشاف كيفية حفظ المواد العضوية على سطح القمر، وكيفية احتجاز الماء في المعادن القمرية، وكيفية تكوُّن المواد الغريبة التي وُلدَت في أزمنةٍ سحيقةٍ كان القمر فيها لا يزال طفلاً يمتلئ وجهه بالبثور البركانية. تقول "بِرجِس": "تتزامن هذه الأنباء مع الذكرى الخمسين لمهمة أبوللو 11، ومع الاهتمام العالمي المتزايد بالقمر، ومع عودة بعض البعثات الفضائية بعينات من الكواكب، مثل أُوسايْرِس-رِكس وهايابُوسا-2، نعيش الآن أوقاتاً حافلةً ومليئةً بالإثارة".