تاريخ ابتسامتك البيضاء الكونيّ: اكتشاف أصل الفلوريد في المجرات المبكّرة

4 دقائق
أصل الفلورايد
حقوق الصورة: شتر ستوك/ نيكولاي أنطونوف.

تفقّد مكونات معجون الأسنان وستجد على الأرجح عبارة «يحتوي على فلوريد الصوديوم». الفلوريد، كما تعلم على الأرجح، مهم لصحة الأسنان. إذ أنه يقوي المينا، وهي الطبقة الواقية الصلبة التي توجد حول الأسنان، وبالتالي فهو يساعد على الوقاية من التسوس.

قد لا تفكر في معجون الأسنان. ولكن مثل كل الأشياء على الأرض، من المهيبة إلى العادية، فإن الفلوريد، وقصة الابتسامة البيضاء، له أصل كوني. الآن، قمت أنا وزملائي بنشر بحث في دورية «نيتشر آسترونومي» يكشف بعض أسرار أصل الفلوريد.

تشكلت جميع العناصر الطبيعية تقريباً منذ زمن بعيد في تاريخ الكون. الهيدروجين هو أقدم عنصر، وتشكل بعد فترة وجيزة من الانفجار العظيم قبل نحو 14 مليار سنة. في غضون بضع دقائق من الانفجار العظيم، تشكلت العناصر الخفيفة، وهي الهيليوم والديوتيريوم والليثيوم، نتيجة لعملية تسمى «التخليق النووي». منذ ذلك الحين، تشكّل كل عنصر آخر تقريباً في عمليات متعلّقة بحياة النجوم وموتها. لكن تلك النجوم لم تكن موجودة دائماً.

أصل الفلوريد
هل تفكّر في الأصل الكوني لمعجون الأسنان عندما تنظّف أسنانك؟ حقوق الصورة: بيكساباي.

ما زلنا لا نعرف بالضبط متى تشكّلت أول النجوم في الكون، ولكن لم يحدث ذلك على الأرجح قبل نحو  100 مليون سنة بعد الانفجار العظيم. قبل ذلك، كان الكون مليئاً بغمامات من الهيدروجين، تتخللها المادة الغامضة وغير المرئية التي يطلق عليها علماء الفلك اسم «المادة المظلمة». لم تكن هذه الغمامات ملساء، بل كانت متموجة، وكانت كثافتها تختلف من منطقة لأخرى منها. هذه المناطق هي التي بدأت في الانكماش أو «الانهيار» على نفسها بسبب الجاذبية، مشكّلة المجرات الأولى. ولدت النجوم في المناطق التي أصبح الغاز فيها كثيفاً بما يكفي، وأضاءت الكون.

مر الكون خلال المليارات القليلة التالية من السنين بمرحلة من النمو السريع: ارتفع معدل تشكل النجوم في الكون بشكل كبير حتى وصل إلى ذروته، منذ 8 إلى 10 مليارات سنة. منذ تلك الفترة، انخفض المعدل الإجمالي لتشكّل النجوم في الكون. هذا هو سبب اهتمام علماء الفلك بالمراحل المبكرة من تاريخ الكون: إذ منح ما حدث فيها الكون الذي نراه اليوم شكله المعروف.

على الرغم من أننا نمتلك الكثير من المعلومات حول كيفية تطوّر المجرات من حيث تشكيل نجومها، إلا أننا لا نعلم الكثير حول تطورها الكيميائي في الأوقات المبكرة. هذا أمر مهم لأنه عندما تعيش النجوم وتموت، تتناثر العناصر الكيميائية التي تُشكّلها في جميع أنحاء المجرة وخارجها. بعد سنوات عديدة، يمكن لبعض هذه العناصر أن تشكّل كواكب جديدة مثل كوكبنا.

اقرأ أيضاً: تشكّلان 95% من الكون: ما هي الطاقة المظلمة؟ والمادة المظلمة؟

تطور سريع يلقي الضوء على أصل الفلوريد

رصدنا مجرة بعيدة تسمى «إن جي بي-190387» (NGP-190387) باستخدام منظومة «أتاكاما المليمترية/دون المليمترية الكبيرة»، وهي تلسكوب يلتقط الأمواج الضوئية التي طولها يبلغ نحو مليمتر واحد. سمح لنا هذا برؤية الضوء المنبعث من غمامات الغبار والغاز البارد في المجرات البعيدة. كشفت البيانات التي جمّعناها عن شيء غير متوقع: انخفاض في شدة ضوء بعند طول الموجة البالغ 1.32 ملم بالضبط.

يتوافق هذا تماماً مع الطول الموجي الذي يمتص عنده جزيء فلوريد الهيدروجين (والذي يتألف من ذرة هيدروجين وذرة فلور) الضوء (مع الأخذ في الاعتبار التحول في الطول الموجي الذي ينتج عن تمدد الكون). يشير هذا الانخفاض إلى وجود سحب من غاز فلوريد الهيدروجين في المجرة التي رصدناها. استغرق هذا الضوء أكثر من 12 مليار سنة للوصول إلينا، وهذا يعني أننا نرى المجرة كما كانت عندما كان عمر الكون 1.4 مليار سنة.

هذا اكتشاف مثير، وذلك لأنه يمنحنا معلومات حول الطريقة التي أصبحت المجرات فيها غنية لأول مرة بالعناصر الكيميائية بعد فترة وجيزة من تشكّلها. يمكننا أن نرى أنه حتى في هذا الوقت المبكر من عمر الكون، كانت هذه المجرة تحتوي على نسبة عالية من الفلور. على الرغم من أننا رصدنا وجود عناصر أخرى في مجرات بعيدة، مثل الكربون والنتروجين والأكسجين، إلا أن هذه هي المرة الأولى التي يُكتشف فيها الفلور في مجرة تُشكّل النجوم على هذه المسافة. كلما زاد تنوع العناصر التي يمكننا رصدها في المجرات المبكرة، ازداد عمق فهمنا لعملية الإثراء الكيميائي (أي تشكيل المركبات الكيميائية) في ذلك الوقت.

نحن نعلم أنه يمكن تركيب الفلور بطرق مختلفة: على سبيل المثال، فهو يتشكّل في حوادث انفجار النجوم المسماة «المستعرات الفائقة»، وفي بعض النجوم التي تصل إلى مرحلة «العملاق المقارب» (وهي النجوم العملاقة الحمراء التي تقترب من نهاية حياتها، بعد أن تستهلك معظم الهيدروجين والهيليوم في أنويتها وتصبح منتفخة).

يمكن للنماذج التي تحاكي كيفية تشكل العناصر في النجوم والمستعرات الفائقة أن تعطينا معلومات عن مقدار الفلور الذي يجب أن نتوقع وجوده في هذه المصادر. وجدنا أن وفرة الفلور كانت أكبر في مجرة إن جي بي-190387 من أن يُفسرها وجود المستعرات الفائقة أو النجوم العملاقة المقاربة وحدها. كانت هناك حاجة إلى مصدر إضافي، وهو على الأرجح نوع آخر من النجوم يسمى نجوم «وولف-رايت». هذا النوع من النجوم نادر للغاية، إذ لم يوثّق منه في مجرة درب التبانة سوى بضع مئات، لكن نوع متطرّف من النجوم.

أصل الفلوريد
مجرات قديمة كما رصدها تلسكوب هابل الفضائي. حقوق الصورة: وكالة ناسا.

تصل النجوم إلى مرحلة يمكن أن يُطلق فيها اسم وولف-رايت عليها إذا كانت ضخمة للغاية، أكثر من 10 أضعاف كتلة شمسنا. تحرق هذه النجوم مقتربةً من نهاية حياتها القصيرة الهيليوم في أنويتها، وتكون أكثر سطوعاً بملايين المرات من الشمس. تفقد نجوم وولف-رايت غلافها الهيدروجيني بسبب رياحها القوية، مما يُعرّي نواة الهيليوم خاصتها. تنفجر هذه النجوم في النهاية مشكلة مستعرات فائقة. عندما أضفنا كمية الفلور التي تصدرها نجوم وولف-رايت إلى نموذجنا، استطعنا أخيراً تفسير الانخفاض في شدة الضوء الآتي من مجرة إن جي بي-190387.

يُضاف هذا الاكتشاف إلى مجموعة متزايدة من الأدلة التي تُظهر أن تطور المجرات كان سريعاً بشكل مدهش في بدايات الكون، إذ أنه كان يتّسم بولادات لا تحصى للنجوم وعمليات إثراء كيميائي هائلة. تمنح هذه العمليات الكون شكله الذي نرصده اليوم، وتوفّر الأدلة معلومات جديدة عن الظواهر الفيزيائية الفلكية التي كانت تفعل فعلها منذ أكثر من 12 مليار سنة.

لكن ربما الاستنتاج الأساسي من الاكتشاف الجديد هو أنه يبين أن قصة ابتسامتك البيضاء هي قصة قديمة بقدم الكون.

المحتوى محمي