قبل أن يتمكّن رواد الفضاء من التجوال عبر تلال القمر «تيتان» المنخفضة الارتفاع أو المشي عبر كثبانه الرملية الهائلة والزّلقة، لابدّ لهم من معرفة تفاصيل المكان الذي سيذهبون إليه.
لقد اتخذ الباحثون أخيراً خطوةً كبيرة نحو استكشاف تيتان؛ أكبر أقمار زُحل، من خلال إنتاج أول خريطةٍ شاملةٍ لمعالمه الجيولوجية المختلفة؛ من سهولٍ جليدية وأوديةٍ متداخلة، وسواحل متعرّجة. ستشكّل الخريطة -التي نُشرت يوم الإثنين 18 نوفمبر/ تشرين الثاني في دورية «نيتشر أسترونومي»- الأساس لوضع الخرائط الأكثر تفصيلاً القادمة، والتي ستساعد العلماء على اكتشاف أسرار ماضي القمر، والتخطيط لاستكشافه في المستقبل.
يقول «ديفيد ويليامز»، عالم الكواكب في جامعة أريزونا، والذي ساهم في إنتاج هذه الخريطة: «يُعد رسم الخرائط الجيولوجية أداةٌ أخرى أساسيةً تساعدنا على تحليل أسطح الكواكب بغرض استكشاف تاريخها».
وصلت المركبة الفضائية «كاسيني» إلى مدار كوكب زحل عام 2004، حيث مكّنت الباحثين من إلقاء أول نظرة عن قرب للقمر، عبر غلافه الجوي. غلاف القمر تيتان أسمك من الغلاف الجوي للأرض، ومكونٌ في معظمه من النيتروجين والميثان. قامت المركبة بإجراء مسح للقمر أكثر من مرة بالموجات الرادارية القادرة على اختراق طبقات غيوم سطح القمر؛ خلال الأعوام الثلاثة عشر التي تلت وصولها. كشف المسح عن بحيرات وأنهار وغيرها من التضاريس التي تدلُ على وجود السوائل على سطحه، حيث كان تيتان أوّل جُرم تُكتشف عليه السوائل.
استخدم «ويليام» وزملاؤه البيانات الرادارية التي قامت مركبة كاسيني بالتقاطها لسطح قمر تيتان من أجل رسم الخريطة، وقد كانت هذه البيانات كافيةً لتغطية نحو نصف مساحة القمر في المناطق المهمة، لكّن دقتها العالية مكنّت الفريق من استخدامها لتحديد مختلف أنواع التضاريس على سطح تيتان، مثل السهول والكثبان. ثم قاموا بمقاطعة هذه البيانات مع الصور المرئية وصور الأشعة تحت الحمراء المُلتقطة وغير الواضحة؛ والتي كانت تُغطي كامل سطح القمر لمعرفة كيف يبدو كلّ معلمٍ أرضي بمقارنة مظهره في مختلف أنواع تلك البيانات. وأخيراً، وباستخدام البرامج الحاسوبية توصلوا إلى تحديد معالم سطح القمر تيتان في المناطق التي مسحها الرادار. يقول ويليامز: «لقد ركّزنا في هذه الخريطة على إظهار مجموعةٍ متنوعة من المعالم والمواد الأرضية على مستوى القمر كلّه».
تكشف الخريطة عن معالمٍ شكلتها حركة السوائل والرياح. وبالرغم من أنه في ظروف حرارةٍ تصل إلى 149 درجة مئوية تحت الصفر، لا يُحتمل وجود مياهٍ متدفقة على سطح تيتان؛ لكنّه من المفترض أن الميثان والإيثان السائلين كانا يملآن بحيرات وأنهار تيتان في السابق قبل أن يتبخّرا، ويهطلا كالمطر مجدداً إلى سطح تيتان في تشابهٍ غريبٍ لدورةِ الماء على الأرض.
ولكن ذلك لا يعني أنّ الماء غير موجودٍ على تيتان. بالعكس، يحوي سطح تيتان كمياتٍ كبيرةٍ منه، يقول ويليامز: «ستكون القشرة الخارجية للقمر عبارةً عن ماءٍ جليدي في معظمها».
وقد حدّد الفريق 6 أنواعٍ رئيسية من التضاريس المتشكلة من القشرة الجليدية؛ وهي الحُفر والبحيرات والسهول، والكثبان والتلال والأودية أو الأخاديد.
سنرى في مناطق عدّة مناطق من الخريطة حفراً تنتشر على سطح تيتان، وتحديداً بالقرب من القطب الشمالي للقمر حيث توجد بحيرات الميثان، وتبدو مناطق مظلمةً تظهر خطوط سواحلها المتعرجة الحادة بوضوح. وبالانتقال جنوباً، سنرى السهول، وهي أكثر أنواع التضاريس شيوعاً على سطحه، وهي مساحاتٌ ممتدةٌ من القشرة الجليدية تغطي ثلثي مساحة تيتان، وتنتشر عليها الكثبان الشبيهة بالكثبان الرملية على كوكب الأرض، إلا أنها مكوّنةٌ من الميثان والإيثان. ويُعتقد أن الرياح الاستوائية قد عملت على تشكيل هذه الكثبان التي يصل ارتفاعها إلى مئات الأقدام، وتمتد إلى مئات الأميال، وجعلها تنتقل على طول خط الاستواء وحوله طوال الوقت ولتغطي خُمس مساحة سطح القمر.
وتتخلل السهول والكثبان الرملية المناطق التي تضم التلال، والتي قد يصل ارتفاعها إلى بضع مئات الأقدام. وسنرى شبكةً من الشقوق والأخاديد تغطي قسماً مهماً من القطب الجنوبي، حيث حفرتها أنهار وتيارات الميثان أيام الحقبة الرطبة التي مرّ بها القمر، وربما تكون دلالةً على التغير المناخي الذي شهده تيتان بسبب تغير مداره حول زحل وبسبب تغير مدار زحل حول الشمس قليلاً مع مرور الوقت أيضاً.
يقول ويليامز: «سنرى عبر التاريخ الجيولوجي لتيتان تسلسلاً زمنياً لمكان تجمّع السوائل، حيث سنرى بدايةً تراكماً لها عند القطبين ثم نرى بعد ذلك أنها تسود عند خط الاستواء وبالعكس».
قد يساعد إجراء المزيد من الدراسات على هذه الخرائط في المستقبل الباحثين على استكشاف حركة السوائل الموسمية أيضاً على القمر. يقول «إمك دي باتر»، عالم الكواكب في جامعة كاليفورنيا وغير المشارك في البحث: «نأمل أن تساعدنا مثل هذه الخرائط على فهم دورة الميثان على القمر تيتان».
هناك خرائط أفضل في طريقها إلينا. فبالرغم من أنّ مهمة كاسيني قد انتهت عام 2017 بعد أن دخلت الغلاف الجوي لكوكب زحل، ووضعت حداً مفاجئاً لمصدر البيانات؛ يقول ويليامز إن اكتشاف وتسمية التضاريس كان مجرّد خطوةٍ أولى في تحليل البيانات التي منحنا إياها كاسيني. وبالفعل، فقد قام هو وزملاؤه بخطوةٍ إضافية عبر إنتاج خريطةٍ تحوي تفاصيل أكثر، حيث قسمّوا سطح القمر تيتان إلى فئاتٍ أصغر تحوي تفاصيل أكثر عن مختلف أنواع التضاريس. ويخططون لنشرها من خلال هيئة المسح الجيولوجي الأميركية، لتنضم إلى الخرائط الجيولوجية للقمر، ولكواكب أخرى مثل المريخ، وكويكبي «سيريس» و«فيستا». ما يزال العمل قائماً لإنتاج خرائط لبلوتو وعطارد أيضاً.
بالرغم من أننا قد لا نحتاج لهذه الخرائط لفترةٍ طويلة قبل أن نتمكّن من ارسال مهماتٍ مأهولةٍ لاستكشاف هذه الكواكب، ربما قد تكون مفيدةً لتستخدمها المسابر الآلية التي سُترسل إليها قبل أن نصل نحن البشر إلى هناك بفترةٍ طويلة. تقوم ناسا حالياً بتطوير مسبارٍ فضائي أطلقت عليه اسم «دراغون فلاي»، الذي يمكنه الهبوط على سطح القمر تيتان والإقلاع مجدداً. ومن المقرر أن يُطلق المسبار من الأرض عام 2026 ليصل إلى القمر تيتان عام 2034، حيث سيبحث عن دلائل إمكانية استيطان ذلك القمر.
يقول ويليامز: «ستساعد هذه الخريطة، مثلاً، في إعلام الفريق حول طبيعة الوحدات الجيولوجية الموجودة، واختيار المكان المناسب للهبوط بالمسبار الآلي المنوي ارساله لاستكشاف تيتان».