هناك ثلاثة أشياء لا مفر منها في العالم، هي: الموت، والضرائب، وإصابة الناس بالإثارة الهستيرية إزاء أي شيء يتعلق بالكائنات الفضائية. وهنا يأتي دور الفيزيائي الشهير آفي لوب من جامعة هارفارد والباحث في مرحلة ما بعد الدكتوراه شمويل بيالي، وبحثهما الجديد الذي نشر قبل طباعته، والذي يقترحان فيه أن الكويكب القادم من الفضاء البَينجمي (أي من بين النجوم) -والمعروف باسم "أومواموا"- قد يكون مركبة فضائية تعمل بدفع الأشرعة الضوئية، وأن المخلوقات الفضائية قد صممتها بهدف السفر بين النجوم. أجل... إنهما يقولان بلا مواربة إن هذا الجسم قد يكون تابعاً لمخلوقات فضائية.
ولكن لا داعي للتسرع، حيث إن هذا البحث لا يقدم أية أدلة فعلية، بل إنه مجرد محاولة لتفسير بعض السلوكيات الغريبة لهذا الجسم بالاعتماد على فرضية غير واقعية. ويعتبر الضجيج الذي يحيط بهذا البحث الجديد مثالاً جيداً عن ضرورة التعامل بحرص وحذر مع الأفكار المبالغ فيها، حتى لو كانت من أشخاص يعملون في أرقى المؤسسات العلمية في العالم.
ولنعد إلى بعض التفاصيل. فمنذ سنة تقريباً، أتى "أومواموا" من الفضاء البينجمي في زيارة سريعة إلى النظام الشمسي، مندفعاً بسرعة تتجاوز 315,000 كيلومتر في الساعة، فيما يمكن اعتباره رحلة استجمام وفقاً للمقاييس الفلكية. وما أن أدرك العلماء أنه كان أول جسم تم رصده وهو يزور النظام الشمسي من الفضاء البينجمي، اندفعوا نحو جمع أكبر قدر ممكن من البيانات حوله، حيث كانت لديهم مهلة أسبوعين فقط لدراسة الجسم بالتلسكوبات الأرضية، وحوالي ثلاثة أشهر لدراسته بالتلسكوب الفضائي هابل، قبل أن يغادر إلى الأبد.
وليس "أومواموا" بالكوكب المصغَّر العادي، فهو يبلغ 800 متر طولاً و80 متر عرضاً، وهو مؤلف من خليط مضغوط من الصخور والجليد ضمن شكل غريب أقرب ما يكون إلى السيجار. ولم يكن من الواضح ما إذا كان يجب تصنيفه على أنه مذنب أم كويكب، حيث إن الشكل يشير إلى المذنب، ولكنه لم يكن ينثر دقائق الغبار الصغيرة مثل المذنبات العادية.
وقد كانت عطلة نهاية الأسبوع التي أمضاها أومواموا عابراً النظام الشمسي غريبة أيضاً، فقد تعرض إلى عدة تغيرات صغيرة في السرعة والاتجاه، ويمكن أن تُعزى هذه التغيرات إلى القوى الثقالية فقط، ومن ثم زاد سرعته أثناء مغادرة النظام الشمسي. ويمكن تفسير هذا بإطلاق نفثات من المواد الغازية من السطح نتيجة التفاعل بين حرارة الشمس والمواد المتجمدة الحساسة في الجسم، مما يؤدي إلى زيادة السرعة الكلية لأومواموا، وهي دلالة واضحة على أنه في الواقع مذنب.
ولكن المذنبات تطلق الغازات عادة عند اقترابها من الشمس وليس أثناء ابتعادها عنها، وقد قدَّم لوب وبيالي حجة معاكسة تقترح أن حركة أومواموا هي ما يمكن أن نتوقعه من جسم تم تصميمه حتى يكتسب قوة الدفع في الفضاء من ضوء الشمس. وهكذا من المفترض أن يعمل الشراع الضوئي، حيث تضرب أشعة الشمس سطح الشراع وتؤثر عليه بقوة تزيد من سرعة الجسم أثناء حركته في الفضاء. وإذا كان لدينا شراع ضوئي مصمم بشكل جيد من أجل السفر البينجمي، فلا بد من وجود كائنات حية ذكية قامت بتصميمه.
وقد نُشر البحث في مجلة The Astrophysical Journal Letters، وقال لوب مدافعاً عنه لإن بي سي نيوز ماك إن هذه الفرضية الجديدة "علمية ومبنية على الأدلة بشكل بحت. لقد اتبعت قاعدة شيرلوك هولمز: عندما تحذف كل ما هو مستحيل، فإن ما يبقى -مهما كان مُستبعداً- هو الحقيقة دون شك".
ولا شك في أنها طريقة غريبة للتوصل إلى استنتاج ثوري كهذا. وتؤكد ميشيل بانيستر (وهي فيزيائية فلكية في جامعة كوين في بلفاست بإيرلندا الشمالية) أن فرضية لوب ستكون صائبة فقط في حال عدم وجود أية تفسيرات معقولة أخرى للتزايد السريع في تسارع أومواموا، وتقول: "ولدينا تفسير جيد يناسب البيانات أيضاً"، مستشهدة ببحث نُشر في مجلة نيتشر Nature في وقت سابق من هذه السنة، حيث استُخدمت البيانات لدعم الفكرة القائلة بأن إطلاق الغاز حدث أثناء مغادرة الجسم للنظام الشمسي. وتقول بانيستر إن عدم رصد إطلاق الغازات قد يكون ناتجاً -ببساطة- عن قلة الوقت المتاح للفلكيين لدراسة أومواموا قبل أن يبتعد، وتتساءل بانيستر بشكل بلاغي: "هل تحتاج البيانات إلى فرضية مبالغ بها في وجود فرضية معقولة وتناسب البيانات بشكل ممتاز؟".
أيضاً إذا كان أومواموا مذنباً، فلن يكون أول مذنب لا يصدر دقائق الغبار الصغيرة، ويعتبر "2P/Encke" مثالاً نموذجياً عن مذنب كهذا، فهو ينثر دقائق كبيرة بأحجام تتراوح حول عدة مليمترات بدلاً من الدقائق الصغيرة ميكروية الحجم. تقول بانيستر: "هناك طيف كامل من السلوكيات المختلفة للمذنبات"، وهي ترى أنه بالنظر إلى وجود المليارات من الأجسام الجليدية والصخرية المتوزعة في أرجاء الكون، فمن الممكن أن نرى واحداً يتصرف بشكل غريب مثل أومواموا.
وفي الحقيقة، فإن هذا البحث ليس الأول الذي يتوقع فيه العلماء أن أومواموا هو نتاج كائنات فضائية ذكية، وبفضل الضجة الإعلامية التي ترافقت مع اكتشاف أومواموا بوصفه أول زائر بينجمي للنظام الشمسي في التاريخ المسجل، فقد شهدنا منذ بعض الوقت كيف يتحول أي تفصيل صغير غريب إلى موضوع لدراسات مكثفة، ويصبح دليلاً محتملاً يشير إلى فرضية ما فائقة الغرابة.
بطبيعة الحال، يوجد فرق كبير بين توقعات مطروحة منذ سنة، وما يقدمه لوب وبيالي الآن؛ فمنذ سنة كان العلماء يحاولون استيعاب البيانات بأسرع وقت ممكن لمعرفة ما إذا كان يجب توجيه الأدوات للبحث عن شيء محدد، ولهذا السبب كانت الأفكار الغريبة تلقى قبولاً أكثر، أما الآن فتقول بانيستر: "مرَّت أكثر من سنة منذ مرور أومواموا، ولم نعد على عجلة من أمرنا. بل صارت لدينا كل البيانات التي يمكن الحصول عليها حول هذا الجسم". ونحن الآن نحاول ببساطة أن نزيد استيعابنا الكلي لهذا الزائر، وهذه الأشياء تستغرق بعض الوقت حتى تتبلور. أما طرح فرضية جديدة مثل تلك التي قدمها باحثو هارفارد فلا يعدو كونه ضجيجاً لا يضيف شيئاً ذا قيمة إلى الصورة الحالية.
إذن كيف ظهر هذا البحث إلى الوجود؟ أثارت الفيزيائية الفلكية كيتي ماك وجهة نظر سديدة على تويتر، حيث تقول إن الكثير من العلماء يحبون إطلاق أغرب التفسيرات حول أية ظاهرة إذا كان من المستحيل إثبات خطئها بشكل قاطع، حتى لو لم تكن هذه التفسيرات مقنعة فعلاً بالنسبة لهم. وفي الفضاء، يمكن من الناحية النظرية لأي شيء غامض أن يكون نتاجاً لمخلوقات فضائية، ولكن ليس من الضرورة أن يكون جسمٌ ما ناتجاً عن عمل مخلوقات ذكية من خارج نظامنا الشمسي لمجرد أنه يخالف تفسيراتنا التقليدية.
ومن المحتمل أن لوب وشمويل طرحا هذا البحث في محاولة لإثارة بعض الردود القوية، ولكن لماذا؟ يعتبر لوب من أهم المساهمين في أبحاث تطوير الأشرعة الضوئية هنا على الأرض، خصوصاً ضمن إطار عمله بصفته عضواً في هيئة استشارية بمبادرة بريكثرو ستارشوت.
ويمكن تفسير هذه الأحداث بطريقة ساخرة تقول إن لوب قدَّم نظرية غريبة حول أومواموا لإثارة شيء من الضجة الإعلامية حول الأشرعة الضوئية. ولكن لوب من كبار الباحثين في هذا المجال، ويبدو من المستبعد على شخص بمستواه أن يقدم بحثاً لهدف دعائي بحت. ولا شك في أن الأشرعة الضوئية حاضرة في ذهنه، ولهذا ليس من المستغرب أن يجرب مقارنة أومواموا مع مركبة مزودة بشراع ضوئي.
لا شك في أن تحديد طبيعة أومواموا سيتطلب الكثير من العمل، ولكن أمثال بانيستر لا يجدون حرجاً في نفي بعض الاحتمالات حول هذا الجسم، مثل: "كونه ليس من نتاج كائنات فضائية".