ربما هناك ثقب أسود أقرب إلى الأرض من الثقب الأسود الفائق الكتلة القوس أ* الذي يقع في مركز مجرة درب التبانة. لكن لا تخف؛ إذ إن هذا التفرد الزمكاني الذي من المحتمل أن يكون متوسط الكتلة لا يهدد كوكب الأرض، على الرغم من أنه أول ثقب أسود من نوعه اكتشفه علماء الفلك. يبدو أن مركز العنقود النجمي الكروي أوميغا قنطورس يثبت فرضية قديمة حول طبيعة التكوينات المجرية. وصفت دراسة نشرتها مجلة نيتشر (Nature) بتاريخ 10 يوليو/تموز 2024 هذه "الأدلة الاستثنائية".
اقرأ أيضاً: ظاهرة مرعبة: ثقب أسود حديث الاكتشاف يبتلع نجماً بحجم الشمس
ما الذي يميّز هذا الثقب الأسود عن غيره؟
حدد علماء الفلك مواقع عشرات الثقوب السوداء المتنوعة الكتل منذ اكتشاف الثقب الأسود الدجاجة إكس-1 (Cygnus X-1) في عام 1964. على سبيل المثال، يقع الثقب الأسود القوس أ* في مركز مجرة درب التبانة، على بعد نحو 27 ألف سنة ضوئية من الأرض. مثل العدد الهائل من الثقوب السوداء الأخرى التي تقع في مراكز المجرات، ينتمي القوس أ* إلى فئة تحمل اسم "الثقوب السوداء الفائقة الكتلة"، التي تبلغ كتلها مليارات الأضعاف من كتلة الشمس. لكن الثقوب السوداء لها كتل مختلفة، إذ تتمتع الثقوب السوداء النجمية المرصودة سابقاً بكتلة تتراوح بين كتلة الشمس وبضع عشرات الأضعاف من كتلة الشمس.
مع ذلك، لم يتمكن علماء الفلك من رصد الثقوب السوداء المتوسطة الكتلة من قبل. يفترض الخبراء أن هذا يعود إلى أن المجرات القزمة المحيطة بهذه الثقوب السوداء تلتهمها المجرات الأكبر غالباً. خلال هذه العملية، لا يخضع الثقب الأسود المتوسط الكتلة والعنقود النجمي المجري المحيط به الذي يقع في مركز المجرة لأي تغيير. يبقى هذا العنقود النجمي ثابت الكتلة ومعتدل الحجم إلى الأبد بسبب عجزه عن التهام أي مادة أخرى؛ أي أنه يصبح عنقوداً نجمياً مثل أوميغا قنطورس تماماً.
يقع أوميغا قنطورس على بعد نحو 18 ألف سنة ضوئية من الأرض، وكان عبارة عن نواة مجرية منفصلة من مليارات السنين قبل أن تلتهمه مجرة درب التبانة. افترض علماء الفلك منذ زمن طويل أن هذه النواة تحتوي على ثقب أسود متوسط الكتلة، لكنهم لم يتمكنوا من إثبات ذلك. أثبت فريق قاده باحثون من معهد ماكس بلانك لعلم الفلك وجامعة يوتا هذه الفرضية أخيراً.
كيف استطاع الباحثون إثبات وجود هذا الثقب؟
وفقاً للدراسة الجديدة، اكتشف علماء الفلك أفضل جسم مرشَّح ليكون ثقباً أسود متوسط الكتلة داخل عنقود أوميغا قنطورس. أشرف طالب الدكتوراة في معهد ماكس بلانك لعلم الفلك، ماكسيميليان هابرلي، على المهمة الشاقة المتمثلة في فهرسة السرعات المرتفعة للغاية لـ 1.4 مليون نجم داخل العنقود من خلال فحص أكثر من 500 صورة التقطها تلسكوب هابل الفضائي. يعتقد علماء الفلك أن هناك كتلة مركّزة (ثقباً أسود) في مكان ما بين تلك النجوم بسبب السرعات النسبية لها. مع ذلك، فإن تحديد هذه الكتلة باستخدام سرعة نجم واحد مستحيل بسبب عجز العلماء عن تحديد إن كان هذا النجم قريباً من جسم ضخم آخر أو قريباً للغاية من جسم آخر أصغر.
قال هابيرلي في بيان صحفي مرافق للدراسة: "البحث عن النجوم المرتفعة السرعة وتوثيق حركتها مثل البحث عن إبرة في كومة قش".
من بين تلك النجوم، بدا أن 7 نجوم فقط ذات سرعات مرتفعة وحركة اتجاهية متفاوتة تشير إلى وجود كتلة كبيرة قريبة. أصبح هابرلي وزملاؤه الآن واثقين من نوع الجسم الذي يؤثّر في حركة هذه النجوم، وذلك بعد الفحص التفصيلي لخصائص كل نجم منها.
اقرأ أيضاً: اكتشاف أقدم النجوم في الكون في محيط مجرة درب التبانة
قالت رئيسة مجموعة فريق معهد ماكس بلانك لعلم الفلك، نادين نويماير: "طرحت الدراسات السابقة أسئلة مهمة مثل 'أين تقع النجوم المرتفعة السرعة؟'. توصلنا الآن إلى إجابة عن هذا السؤال وأثبتنا أن أوميغا قنطورس يحتوي على ثقب أسود متوسط الكتلة". وفقاً لنويماير، الثقب الأسود المتوسط الكتلة الذي يقع على بعد 18 ألف سنة ضوئية من الأرض هو أقرب ثقب أسود معروف، حتى أقرب من الثقب الأسود القوس أ* الذي يوجد في مركز درب التبانة.
أشارت الأبحاث الإضافية إلى أن الثقب الأسود في عنقود أوميغا قنطورس يتمتع بكتلة لا تقل عن 8,200 ضعف من كتلة الشمس، لكن ليس من المتوقع التقاط صور له. في الواقع، عدم القدرة على تصوير هذا الثقب الأسود يدعم نتائج فريق الدراسة الجديدة؛ إذ يشير غياب أي جسم مرئي في الموقع المتوقع إلى وجود الثقب الأسود، وذلك لأن الضوء نفسه لا يستطيع الإفلات من جاذبيته.
كتب الأستاذ المشارك في علم الفلك في جامعة يوتا والباحث الرئيسي المشارك في الدراسة الجديدة، أنيل سيث، في بيان آخر عبر البريد الإلكتروني: "هذا اكتشاف لا يحدث إلا مرة واحدة في الحياة المهنية. شعرت بالحماس حياله مدة 9 أشهر متواصلة. ويتجدد حماسي في كل مرة أفكر فيها بالأمر. أعتقد أن الادعاءات الاستثنائية تتطلب براهين استثنائية. والأدلة التي اكتشفناها استثنائية بحق".