لم تكن الفلكية جاين جريفز بصدد البحث عن الماس، أو الانبعاثات الميكروية الغريبة، بل كانت تبحث فعلياً عن الغبار، غير أن الأرقام التي كانت تظهر على أدوات تلسكوب جرين بانك لم تتوافق مع أي شيء كانت تتوقعه.
تدرس جريفز المراحل المبكرة من تشكل الكواكب، ومنذ بضعة سنوات، قررت أن تلقي نظرة عن كثب على بعض النجوم المحاطة بحلقات من الغبار الذي لم يتكتل بعد ليتحول إلى كواكب وأقمار وكويكبات. ذهبت جريفز إلى جرين بانك، وهو مرصد عملاق في ويست فيرجينيا، وذلك لإلقاء نظرة على بعض الأقراص الكوكبية الأولية عن طريق بعض المعدات الحساسة والفريدة الموجودة في المنشأة، ولكن القراءات التي حصلت عليها كانت غريبة.
تقول جريفز: "كنت أبحث عن الانبعاثات من دقائق الغبار الصغيرة التي يزداد سطوعها بشكل ثابت. ولكن هذا الانبعاث أخذ يشتد ويخفت بشكل متكرر مع تغير طول الموجة، وهو أمر صعب للغاية لا يمكن لمعظم العمليات الفلكية أن تحققه". وهكذا، بقي هذا الشكل والنمط الغريب من الأطوال الموجية حول النجم الحار البعيد عالقاً في ذهنها لسنوات.
تتابع جريفز قائلة: "بقيت أحدق في هذه الأرقام لثماني سنوات تقريباً، وأنا أقول لنفسي: هذه الأرقام خاطئة، خاطئة". تابعت جريفز العمل على مشاريع أخرى وتركت بيانات جرين بانك جانباً. ومن ثم حضرت بضعة حوارات مع بعض الزملاء حول شيء يسمى الانبعاثات الميكروية الشاذة "أيم AME" في جامعة مانشستر. وأدركت أن هذه الأرقام التي بدت في غاية الغرابة لم تكن ناتجة عن خطأ، بل عن شكل من الغبار يختلف كلياً عما كانت تبحث عنه.
نشرت جريفز بحثاً في مجلة Nature Astronomy بالاشتراك مع بعض الزملاء، وأعلنت فيه أنهم اكتشفوا وجود أيم في ثلاثة أنظمة تشترك جميعاً في ميزة واحدة ومثيرة للاهتمام، وهي وجود الماسات النانوية قرب نجومها.
اكتشفت أيم لأول مرة منذ حوالي عشرين سنة، وظهرت في عمليات مسح للفضاء ما بين النجوم على شكل انبعاثات متذبذبة غريبة، بشكل مشابه للانبعاثات الراديوية التي رصدتها جريفز حول النجم. لم يتمكن أحد من تحديد مكان أو طبيعة مصدر هذه الانبعاثات، ولكن بناء على القراءات، بدا أنها قد تكون ناتجة عن جسيمات نانوية دوارة، وهو ما يمكن أن ينتج هذا الشكل الموجي الراديوي المميز.
تقول جريفز: "تخيل أنك تمشي في الظلام حاملاً مصباحاً يدوياً، وأنك تدوره بشكل مستمر في يدك. إذا نظر أحد باتجاهك سيرى أثراً ضوئياً متموجاً ناتجاً عن هذا الدوران، وهو ما يشبه طريقة تولد هذه الانبعاثات، إذا اعتبرنا أن المصباح اليدوي يقابل موجة راديوية".
ولكن ما نوع هذه الجسيمات النانوية؟ هنا يأتي دور بحث جريفز. وبفضل القراءات التي سجلت على مدى عقود كاملة من الزمن، تمكن الباحثون من رصد ثلاثة أنظمة نجمية ذات أقراص كوكبية أولية تحتوي نمطاً فريداً من الأمواج الضوئية التي تشير إلى وجود ماسات نانوية، لا يتجاوز قطر أغلبها بضع ذرات فقط، تدور حول نجوم حارة وساطعة، ويمكن أن يكون أحد هذه الأنظمة هو الذي رصدته جريفز في جرين بانك.
عندما ألقت جريفز وزملاؤها نظرة دقيقة على هذه النجوم الثلاثة، والتي يعرفون وجود ماسات نانوية تحيط بها، وجدوا أيضاً أنها جميعاً تصدر أيم، وهو أمر لم يسبق أن شوهد من قبل في البيئة المحيطة بأي نجم.
ليست هذه الماسات شبيهة بالشكل الشائع الذي تعرفه للماس، كما أن الانبعاثات الصادرة عنها ليست تلألؤاً بأي شكل من الأشكال. إنها أقرب للماسات المستخدمة في التطبيقات الصناعية، مثل ثقب أو طحن المواد الأخرى، من تلك الموجودة في الحلي والجواهر.
تقول جريفز ضاحكة: "لا تثير صور بودرة الماس الصناعي أية دهشة أو تعجب، وقد تصاب بخيبة الأمل، ولكن قد نجد ما هو أكبر بقليل في الفضاء الخارجي، مثل تلك الموجودة في النيازك، والتي قد تكون أكثر إثارة بقليل". لا يتجاوز عرض هذه الماسات بضعة نانومترات، كما أنها مغطاة بطبقة من ذرات الهيدروجين، والتي التقطتها أثناء مرورها عبر غاز الهيدروجين في رحلتها ضمن النظام الشمسي.
قد تكون هذه الماسات صغيرة، ولكنها قد تساعد على حل لغز كبير في منبع أيم. تعتبر هذه الماسات دليلاً آخر يضاف إلى ترسانة الفلكيين الذين يدرسون أيم القادمة من الفضاء ما بين النجوم، للتحقق مما إذا كانت الجسيمات النانوية الدوارة التي يبحثون عنها في أعماق الفضاء ماسات أيضاً.
تخطط جريفز مع زملائها لمتابعة البحث، كما أنها أصبحت أخيراً قادرة على نشر بحثها الأصلي حول الأقراص الكوكبية الأولية الغبارية، وتأمل بأن تتعاون مع خبراء في الماسات النانوية، وتخطط أيضاً للعمل مع أحد الطلاب والبدء بدراسة العلاقات المحتملة بين الماسات النانوية والأيم في الفضاء ما بين النجوم. تقول جريفز: "نأمل بالحصول على نظرة إحصائية تحدد لنا ما إذا كانت هذه الظاهرة أكبر من مجرد تلك الأقراص الكوكبية الأولية الثلاثة بالتحديد".