قد تدفعنا قصص التاريخ المرتبطة بسماء الليل للاعتقاد بأنّ ما نراه فيها من نجومٍ ومجراتٍ ثابتٌ لا يتغير. إلا أنّ الملّاحين، وعبر قرونٍ من الزمن، كانوا يوجهون سفنهم مستخدمين معدّاتٍ تسترشد بالنجوم في السماء، وما زلنا للآن نرى في السماء نفس أشكال الأبطال والأشرار التي تشكلّها النجوم منذ آلاف السنين. ولكّن، ماذا لو أننا لا ندرك أن سماء الليل تتغير لأننا لا نراقبها عن كثب؟
تعمل مجموعةٌ من علماء الفلك بالتحقّق من الافتراض القائل بأن سمائنا لا تتغير، وذلك في مشروع مراقبة ظهور واختفاء النجوم خلال قرنٍ من الزمن أو ما يُطلق عليه مشروع «فاسكو - VASCO» من خلال مقارنة الدراسات الاستقصائية التي استمرّت 70 عاماً، مع صور سماء الليل الحديثة لمعرفة النجوم التي اختفت أو ظهرت. وبعد سنواتٍ من العمل الدؤوب، أعلنت المجموعة عن نتائج أبحاثهم الأولية في دورية «Astronomical Journal»، حيث أشاروا إلى أنّ ما لا يقلّ عن 100 بقعةٍ كانت مضيئةً في سماء منتصف القرن العشرين ربّما أصبحت مظلمةً الآن وتلاشت. قد تمثّل الأضواء التي اختفت ومضاتٍ ضوئية قصيرة العمر، أو إذا تمكّن الباحثون بالفعل من تأكيد ما يرونه، فمن المحتمل أنها تعود لأجسام سماوية دامت لفترةٍ طويلة ثم تلاشت. يؤكّد القائمون على الدراسة على أنه وبالرغم من أن اكتشافاتهم الأولية هي بالتأكيد تمثّل أحداثاً طبيعية ومفهومة عموماً، إلّا أنّهم يأملون بربط نتائجهم بعلم الفلك ومشروع البحث عن الذكاء خارج كوكب الأرض «SETI».
تقول «بيتريز فيلارويل» الباحثة في معهد «نورديك» للفيزياء النظرية ومؤلفة مشاركة في التقرير الأخير: «يمثّل مشروع «فاسكو» مشروعاً للبحث عن الذكاء خارج الأرض على غرار مشروع «SETI»، ومشروعاً فيزيائياً فلكياً تقليدياً، وحتّى لو كنا نقوم ببحثٍ مشابهٍ لمشروع «SETI» وحصلنا على إجاباتٍ له، إلا أننا مهتمون أيضاً بنشر النتائج الأخرى التي سنجدها أثناء بحثنا».
اعتادت فيلاريل، عندما كانت طالبةً، على كتابة القصص القصيرة، أثارت تأملاتها الإبداعية لديها سؤالاً واقعياً، هل اختفى أيٌّ مما نراه في السماء، هل تحقّق أحدٌ من ذلك؟
تميل النجوم عندما تموت للإنفجار بشكلٍ هائلٍ يُرى بوضوح، وقد وثّق الصينيون أول انفجار «سوبر نوفا» من نوعه منذ أكثر من 1800 عامٍ مضت. لكّن فيلرويل تُشير إلى أن تلاشي النجوم أو المجرّات البطيئين يتطلّب المزيد من الشرح، حيث يمكن أن تتوصل نتائج دراستهم إلى طريقةٍ غير متوقّعة لتماوت النجوم أو ربما إلى حضارةٍ ما في الكون قامت بحجب الضوء المنبعث من النجم بطريقةٍ ما، أو قد تكشف عن حقائق مثيرة. تقول فيلارويل: «إذا كان علينا البحث عن حضاراتٍ خارج كوكبنا، ربما علينا البحث عن شيءٍ ما سيكون من غير المنطقي فعلاً العثور عليه».
لذلك انضمّت فيلارويل، بعد أن حصلت على الدكتوراه، إلى مشروع فاسكو للإجابة على سؤالها، وقادت الجهود بالتعاون مع فريقٍ مكونٍ من حوالي 20 عالماً فلكياً وفيزيائياً لمقارنة سلسلةٍ من الصور السماوية التي التقطها مرصد البحرية الأميركية «USNO» على مدى عقودٍ من الزمن بدأت في عام 1949، بالإضافة لمجموعةٍ من بيانات الرصد التي التقطتها نظام التلسكوبات «Pan-STARRS» بين عامي 2010 و 2014.
استخدم الفريق برنامجاً لتحليل 600 مليون مصدرٍ ضوئي كان من المفترض أن تظهر في كلٍّ من مجموعتي البيانات، وتوصّلت إلى أن 150 ألفاً منها بدا وكأنه قد تلاشى. حيث قاموا بمقارنة مصادر الضوء المفقودة هذه مع الصور من بياناتٍ أخرى لعزل مصادر الضوء ذات الاحتمال الأكبر بأنها تلاشت. وقد بقي 24000 مصدر ضوئي بعد عملية العزل ومعاينتها واحداً تلو الآخر لاستبعاد مصادر الضوء الشاذة التي قد تكون ناتجةً عن عيوبٍ في الكاميرا، أو لأي سببٍ مماثل، ليبقى أخيراً حوالي 100 مصدرٍ ضوئي بدا أنها قد اختفت بالفعل. تقول فيلارويل: «لقد بذلنا أقصى جهودنا لاستبعاد أي احتمالٍ قد يكون خاطئاً».
إذا أكدّت الأبحاث الإضافية على بيانات الرصد أن حالات تلاشي المصادر الضوئية تمثّل أحداثاً فلكيةً حقيقية، يمكن حينها إدراجها ضمن فئتين. الأولى، كما تُشير فيلارويل، هي على الأرجح ومضاتٌ قصيرة التقطتها بالصدفة منظومة مراصد البحرية الأميركية (USNO) وتلاشت بسرعة، حيث يمكن إرجاع هذه الومضات السريعة إلى عدّة ظواهر، مثل توهّج النجوم الحمراء القزمة أو إلى نجومٍ خافتةٍ استطاعت منظومة تلسكوبات «Pan-STARRS» التقاطها لفترة قصيرة، أو توهجٍ ناتجٍ عن انفجارات بعيدةٍ أصدرت إشعاعات جاما.
أما الاحتمال الثاني، الذي تتوق فيلارويل لاكتشافه وما بدأت بالبحث عنه، مصدرُ ضوءٍ دائمٍ تلاشى. في الحقيقة، يراهن المتحمسون لمشروع «SETI» منذ زمنٍ طويل على وجود حضاراتٍ غريبةٍ تمتلك تقنياتٍ عبقرية قادرةٍ على احتجاز كلّ الضوء المنبعث من نجمٍ ما، وحجبه من الوصول إلينا في أيّ وقت. مع ذلك، يوجد تفسيرٌ طبيعي لمثل هذه الحالات، مثل «النجوم العملاقة الحمراء، Red Supergiant» التي نجت من حادث «سوبر نوفا» وتلاشت مباشرةً، وتحوّلت إلى ثقبٍ أسود. يُعتقد أن حالات وفاة النجوم الناتجة عن هذه الانفجارات نادرة جداً، لذلك إن كان حدوثها قليلاً فسيكون تفسيرها أكثر صعوبةً قليلاً.
وبالرغم من النتائج الأولية مشجعة، تُصرّ فيلارويل مرةً أخرى على أنه من المبكر جداً التكهّن بوجود حضاراتٍ عبقريةٍ غريبة. تقول فيلرويل: «علينا أولاً استبعاد كلّ الحوادث التي تبدو طبيعيةً، ومن ثمّ إن كتشفنا ظواهر طبيعيةٍ جديدةٍ أخرى لا نعرفها، حينها قد يكون تفسيرها أمراً مثيراً جدّاً».
يخطط علماء الفلك العاملون في مشروع فاسكو في المرة القادمة، بالإضافة إلى الاستمرار بدراسة المواقع المئة التي يبدو أنها لم تعد تصدر الضوء، لتنفيذ مشروعٍ علمي شعبي يمكن لأي شخصٍ المساهمة، وتقديم المساعدة للبحث للتحقّق من مصادر الضوء المتبقية من أصل 150 ألف مرشّح. حيث تقدّر فيلارويل أن هناك المئات من مصادر الضوء المتلاشية الأخرى لا يزال يتعيّن علينا اكتشافها.
من المُتوقّع أن يسرّع مشروع التلسكوب القادم «تلسكوب المسح الشامل الكبير - Large Synoptic Survey Telescope»، والذي سيبدأ عمله في مسح السماء مرّةً كل بضع ليالٍ في أواخر عام 2022، جهود البحث عن مثل هذه الأضواء «العابرة»، لكن بالنسبة للعاملين في مشروع فاسكو، يبدو الحصول على تلك البيانات بعيداً جداً. تقول فيلارويل: «لا نطيق الانتظار، نشعر بفضولٍ شديد».