غالباً ما تخدعنا الأضواء الساطعة التي نراها بأعيننا المجردة في السماء ليلاً. على سبيل المثال، يُخيّل إلينا أن نجم سيريوس (الشعرى اليمانية) -وهو أكثر النجوم سطوعاً بعد الشمس- بأنّه نجم واحد. لكن عند النظر إليه عبر تلسكوب بقوة تكبير كافية؛ يتضّح لنا أنه مكوّن من نجمين مترافقين وهما «سيروس أ»، و«سيروس ب». كما أن هناك منظومات نجمية تتكوّن من ثلاثة أو أربعة أجسام نجمية فأكثر أيضاً. في الواقع، كلّما زاد عدد النجوم التي تدور حول نجمٍ ما، كانت أقرب لتشكيل نظام نجمي خاص بها أقرب إلى نظامنا الشمسي.
في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية؛ بالكاد يمكننا مشاهدة مثل هذه الأنظمة النجمية في كوكبة «المرقب» بالعين المجرّدة. وبالرغم من أن الأنظمة النجمية الأقل حجماً لا تظهر كثيراً للعين المجردّة، إلا أنّ الدراسات السابقة التي اعتمدت على وميضها أظهرت أنها مكوّنة من نجومٍ مزدوجة. والآن، أظهرت مراقبات التتبع رفيقاً ثالثاً لها يختبئ في الظلام. فقد أفاد الباحثون في الدراسة في دورية «أسترونومي آند أستروفيزيكس» أنّ الرفيق الثالث غير المرئي -الذي يبلغ وزنه أكثر من أربعة أضعاف كتلة الشمس، ولا يُصدر أيّ ضوءٍ يمكن رؤيته- يمكن التأكيد بأنه ثقب أسود. والمثير للدهشة أكثر أن هذا النظام النجمي يقع على بعد 1000 سنة ضوئية فقط من نظامنا الشمسي، أي أقرب من أي ثقب أسود معروف آخر. يوفر هذا الاكتشاف المذهل دليلاً على ما افترضه علماء الفيزياء الفلكية منذ فترة طويلة؛ وهو أننا نعيش داخل ثقب أسود.
يقول «توماس ريفينيوس»، المؤلف المشارك في الورقة البحثية، وعالم الفلك في المرصد الجنوبي الأوروبي: «ما هو قريب منّا لا بد أن يوجد في كل مكان في مجرتنا».
الثقب الأسود هو المرحلة الأخيرة من حياة أي نجم أضخم بعشر مرات من شمسنا. لذلك من الطبيعي أن نتوقع وجود الكثير منها في مجرتنا. يتوقع المُنظرون أنه ربما يكون هناك مليار ثقب أسود منتشر في جميع أنحاء أذرع مجرتنا الحلزونية (ثقب أسود لكلّ بضع مئات من النجوم). ولكن بمجرّد انفجار نجم هائل، يتحوّل إلى بقعة كثيفة المادة تحجب أي أشعة ضوئية آتية منها عنّا، إذاً كيف يمكننا العثور عليها حينئذ؟
في الواقع، يستحيل تحديد ثقبٍ أسود بحد ذاته، لكّن العديد من الثقوب السوداء لا تكون منفردة في الواقع. فقد رصد علماء الفلك العشرات من الثقوب السوداء الضخمة التي تتغذّى على النجوم المرافقة لها، وهي عملية تجعل الثقوب السوداء تُصدر الأشعة السينية الساطعة حين يسقط فيها النجوم الأصغر حجماً، وتبتلعهم.
لا تُعلن الثقوب حالكة السواد عن وجودها إلا من خلال طريقة تفاعلها، وجذبها للنجوم المحيطة القريبة منها بشكلٍ كاف لتجذبها. لكنها في نفس الوقت بعيدة عنه بما يكفي لتتجنب أن يبتلعها الثقب الأسود. يقول ريفينيوس أن هناك بعض الأنظمة النجمية تُظهر علامات على وجود عنصر آخر غير مرئي، ومع ذلك فهو يعتبر أن وجود نظام نجمي أحادي أو ثنائي يُظهر هذه العلامات؛ يعني أنه قد يكون كافياً لتأكيد فرضيته. لكن كل هذه الأنظمة النجمية المُرشّحة تبعد عنا عشرات الآلاف من السنين الضوئية أو أكثر. توجد العديد من الثقوب السوداء الأخرى المعروفة -مثل الثقب الأسود المُكتشف أخيراً والذي ظهرت أول صورةٍ له العام الماضي- على بُعد ملايين السنوات الضوئية في المجرّات الأخرى).
بالرغم من أن مسافة 1000 سنة ضوئية تُعتبر قريبة جداً في نظر علماء الفلك، لكّن ما يزال من الصعب جداً على التلسكوبات البصرية فصل النجوم الفردية في الواقع. لذلك قام ريفينوس وزملائه بتحليل الضوء المنبعث من النجم (الذي يتكوّن من نجمين أو أكثر في الواقع) إلى مكوّناته الأساسية المختلفة، ودراسة كيفية تغيّر ألوان معيّنة في الطيف الناتج. ثم قاموا بمسح النظام النجمي بشكلٍ متكرر على مدى 4 أشهر من مرصد لاسيلّا في تشيلي، ووجدوا أنّ النجم الداخلي يتذبذب في مساره جيئةً وذهاباً كل 40 يوماً أو نحو ذلك، مما يدل على أنّه مرتبط برفيقٍ لا تقل كتلته عن 4.2 مرّة كتلة شمسنا. لكن عندما كان ذلك الرفيق النجمي يدفع النجم للتحرّك في الاتجاه المُعاكس، لم يكن هناك من أثرٍ له سوى الظلام الدامس.
استبعد الباحثون فرضياتٍ بسيطة لهذا السلوك، مثل وجود رفيق نجمي خافت بشكلٍ غير عادي، بينما كانت هناك المزيد من الاحتمالات الممكنة الغريبة لتفسير ذلك. سيتطلب التأكيد الصارم لذلك مراقبة مستمرّة لقياس التداخل (وهي تقنية فلكية تدرس خواص الموجات الضوئية عن طريق تحديد التداخل بينها)، حيث يمكن من خلالها الفصل بين نجوم النظام النجمي.
لو كان النظام النجمي المدروس يبدو كما يظهر بالفعل، لكانت الميزة الأفضل لمعرفة طبيعته؛ أي ثقب أسود طبيعي يدور مع نجمين عاديين غير بعيد عنّا في مجرّتنا (مسافة 1000 سنة ضوئية ليست سوى 1% من اتساع مجرّة درب التبانة). غالباً ما يبحث الفلكيون عن أي شيءٍ يمكن أن يمكن أن ينقض نموذجهم المُفترض، مثل الأجسام الأكبر والأكثر سطوعاً والأعنف حركة. لكّن هذا النظام الثلاثي النجمي يمثل نوعاً مختلفاً من الاكتشافات. فهو يوضّح مدى شيوع مثل هذه الأنظمة في مجرّتنا، وهي المعادل الفلكي للنظر خارج نافذتك واحتمال رؤية سنجاب مثلاً.
يعمل النظام النجمي الثلاثي كتفسير لظاهرة الموت النجمي، بالإضافة إلى دعم الصورة النظرية لمجرة مليئة بالثقوب السوداء الهادئة. يعلم علماء الفلك أنّه عندما ينفجر نجمٌ كبير في المستعر الأعظم (كما هو مفترضٌ بأن ذلك قد حدث في الثقب الأسود سابقاً)، يجب أن ينبعث منه موجة صدمة تبعثر النجوم القريبة والمحيطة به. في الواقع، تتنباً النماذج بهذه الظاهرة، وقد رأى علماء الفلك نجوماً منفصلة تسير عبر المجرّة بسرعةٍ كبيرة بشكل يصعب تفسيره. لكن هذا الثقب الأسود استطاع الحفاظ على نجمتيه، مما يشير إلى أن الطاقة التي أطلقها لم تنتشر بالتساوي في جميع الاتجاهات.
من المحتمل أنّ هناك المزيد من الثقوب شديدة السواد يمكن اكتشافها، وقد يحتاج الباحثون إلى مراقبة السماء فقط للعثور عليها. يقول ريفينوس: «نحتاج إلى تطوير طريقة البحث ودراسة البيانات الموجودة بعمقٍ أكبر لاكتشاف المزيد منها». هذه البيانات حول الأنظمة النجمية الثنائية والثلاثية والمماثلة للبيانات التي جمعها ريفينوس وزملاؤه؛ تملأ قواعد البيانات الفلكية، ويمكن لأي فيزيائي فلكي الوصول إليها بسهولة عبر الإنترنت.