اكتشاف أنماط متكررة من التدفقات الراديوية تأتي من أعماق الفضاء

3 دقائق
سماء الليل, فضاء, النجوم, تغير السماء, فضاء, ناسا, الفيزياء الفلكية

أمضى الفلكيون 6 سنوات يرصدون جسماً غريباً يبعد عن الأرض مليون مليار سنة ضوئية وهو ينفجر مراراً وتكراراً. لا يعلم الفلكيون بعد ما السبب وراء تدفقات الطاقة العنيفة هذه، لكن يعتقد أعضاء أحد الفرق البحثية أنهم اكتشفوا على الأقل متى من المرجح أن تنطلق هذه الألعاب النارية خارج المجريّة. إذا كان هؤلاء الباحثون محقّين، فإن هذا الجسم المجهول سيصدر ألسنة من الإشعاع طوال صيف 2020، موفراً بذلك معلومات جديدة حول واحد من أكبر الألغاز في علم الفلك الحديث.

يقول «كوستوب راجوود»، فلكي في جامعة مانشستر في المملكة المتحدة، ساعد في كشف النمط الجديد في البيانات: «كل نبضة تقول لنا معلومة جديدة،»، ويضيف: «لو أوقفنا الرصد عند 10 نبضات، فلم نكن لنكشف النمط الجديد».

في أواخر العقد الأول، وأوائل العقد الثاني من القرن الحالي، بدأ الفلكيون بملاحظة ومضات لموجات راديويّة منتشرة في السماء. مثّلت كل نقطة تدفقاً هائلاً للطاقة يعادل ما تنتجه الشمس على مدى عقود، ولكن مضغوطاً في بضعة آلاف من أجزاء الثانية. مهما كان سبب هذه الدفقات الراديوية السريعة؛ فسيكون من أكثر الانفجارات إثارة في الكون. أطلق العلماء النظريون مخيلاتهم في محاولة تفسير هذه الدفقات، فأخذوا بعين الاعتبار انفجارات المستعرات العظمى البعيدة، وتصادمات النجوم النيوترونية، وحتى مركبات لكائنات فضائية.

بدأت الدفقات بعد ذلك بالتكرار. ففي 2015، رصد الفلكيون 10 دفقات إضافية من نقطة في الفضاء العميق ومَضَت لأول مرة عام 2012. هذا الجسم -بغض النظر عن ماهيته- بقي موجوداً بعد أول رصد لوميضه لمدة تكفي حتى يطلق دفقات جديدة مراراً وتكراراً. رصدت التلسكوبات الراديوية عشرات ثم مئات من الومضات من هذا الجسم غزير الإنتاج. على ما يبدو، فإنه يصدر إشعاعاً بشكلٍ عشوائي، فأحياناً يُنتج ومضات متتالية بفروق زمنية لا تتجاوز عُشر الثانية، وأحياناً أخرى ينتجها كل بضعة أيام أو أشهر. كما اتضح أن حوالي 20 من أصل 100 مصدر للدفقات الراديوية السريعة، هي ما يدعوها الباحثون اليوم بالأجسام «المُكرِّرة» لأنها تكرر إصدار الإشعاع مرات عديدة. اكتُشفت معظم هذه الأجسام في السنة الأخيرة على أيدي الفلكيين باستخدام تلسكوب «سي أتش آي أم إي».

رصد تعاون «سي أتش آي أم إي» من المصادر المئة السابقة واحداً فقط تتّبع دفقاته نمطاً واضحاً. هذا النمط هو كما يلي: تمتد دورة الومضات 16 يوماً تتناوب فيها الفترات بين النشطة والهادئة. وفسّر النظريون هذا النمط على أنه ناتج عن تذبذب ضوء صادر من نجم نيوتروني ممغنط أثناء دورانه.

الآن، كشف راجوود وزملائه عن نمط آخر محتمل في بيانات ومضات نفس الجسم الذي رُصد لأول مرة في 2012، ونشروا اكتشافاتهم بالتفصيل في مجلة «ذا رويال أسترونوميكال سوساييتي» في مايو/ آيار 2020.

رصد أعضاء الفريق هذا الجسم المُكرِّر باستخدام تلسكوب «لوفل» في المملكة المتحدة لما مجموعه 120 ساعة، موزّعة بشكل متقطع على 4 سنوات. وخلال هذا الوقت، أصدر المُكرر 32 دفقة سريعة كانت كافية لإيضاح النمط الجديد. يقول راجوود: «لقد قمت برسم بياناتي بشكلٍ أساسي، وعلى الفور ظهر النمط بشكل مرئي».

بعد تجميع 250 ومضة إضافية من دراسات سابقة امتدت 6 سنوات، شعر راجوود بأنه واثق من أنه يمتلك ما يكفي من الأدلة ليقول أن المُكرر يصدر الدفقات بانتظام. إذ أنه يومض بشكل عشوائي لمدة 90 يوماً متتالياً، حسب حسابات راجوود، ثم لا يومض إطلاقاً لمدة 67 يوماً. بعد ذلك، تتكرر هذه الدورة ويكون مجموع أيامها 157 يوماً. يفترض أن يكون قد بدأ الجسم بإصدار النبضات في 2 يونيو/ حزيران من هذا العام.

تبقى هذه الاكتشافات غير مؤكدة حتى الآن. ونتيجة للجداول الزمنية لأعمال صيانة التلسكوب المستخدم، والمنافسة الشديدة من الفرق الأخرى على ساعات الرصد؛ فقد وقع قسم كبير من الساعات الـ 120 التي رُصد فيها الجسم في فترة الإصدار العشوائي (والتي تمتد إلى 90 يوماً)، مما قد يحرف النتائج قليلاً.

تقول «كيلي جوردجي»، عالمة في مجال الفلك الراديوي في جامعة أمستردام لم تشارك في هذا البحث: «هناك بالفعل شيء مثير للاهتمام يحدث هنا، يمكن للجميع الاتفاق على ذلك». وتضيف: «نحن بحاجة لأن نبحث في مجموعات أكبر من البيانات لتأكيد الكشوفات وزيادة دقتها».

أما «إيمانويل فونسيكا»، فلكي من جامعة مكجيل وعضو في تعاون «سي أتش آي أم إي»؛ فقد أبدى حماسه للأبحاث المستقبلية التي فتحت لها المجال الاكتشافات الأخيرة. إذ يقول: «هذه الاكتشافات مثيرةٌ فعلاً، ومن الجيد أن يدفع المجتمع العلمي قدماً لإجراء المزيد من الأبحاث في هذا المجال».

تقدّم الاكتشافات الأخيرة -على عكس تلك التي أتت قبلها- معلومات جديدة تساعد الباحثين في فهم ماهية مصدر هذه الدفقات، وتشير إلى أن الجسم المصدر يمكن أن يدور حول نفسه بسرعة لا تسمح له بأن يكون نجماً نيوترونياً وحيداً. يقول جورجي: «يصبح من الصعب تفسير ذلك بشكل جوهري».

تدعم الأرصاد الجديدة بقوة النظريات التي تصف أجساماً منفصلة تتفاعل مع بعضها بشكل دوري (أي متكرر بفواصل زمنية ثابتة) على مسافات كبيرة. يقول راجوود: «حسب تخميني، يمكن أن يكون المصدر نظاماً مدارياً (أي مجموعة من الأجسام التي تتخذ مدارات حول كتلة بفعل الجاذبية)، ويضيف: «إن الدفقات الراديوية السريعة تأتي بالفعل من جسم متراص مثل نجم نيوتروني، ولكنه يمكن أن يدور حول أي شيء تقريباً، مثل نجم ضخم أو ثقب أسود، لحد الآن، كل الخيارات مفتوحة». كما يمكن أن يكون للدفقات الراديوية السريعة أصولاً متعددة.

ما يريد راجوود معرفته حقاً هو ما إذا كان هناك أنماط إضافية مختبئة في الومضات العشوائية لأجسام مُكررة أخرى؛ لأن الفلكيون سيحتاجون المزيد من الأرصاد ليرسموا استنتاجات حاسمة. استغرق الأمر نصف عقد من الرصد الدقيق لاكتشاف دورة الجسم المُكرِّر الأصلي. وإذا كان لمصادر الدفقات الأخرى دورات أبطأ، فسيكون من الصعب على الفلكيين اكتشافها. فقط ومن خلال تجميع كميات أكبر من البيانات حول الدفقات الراديوية؛ سيستطيع الفلكيون فهم ما يحدث بالفعل في هذه المجرات البعيدة جداً.

المحتوى محمي