في قديم الزمان، حدث انفجار كبير؛ لقد كان الشرارة الأولى التي بدأ معها كل شيء، ولكن على مدى عدة مئات من ملايين السنين كان الظلام يعمّ كل شيء. ثم بدأت مصادر الضوء تطلق أشعتها، إيذاناً بحقبة قادمة سوف تتشكل فيها كل من النجوم والغازات والمجرات.
أحد مصادر الضوء الأكثر لمعاناً خلال تلك الحقبة الأولى من عمر الكون؛ كان لديه ثقب مظلم وجائع في جوفه. لقد كان حجم ذلك الثقب الأسود أكثر ضخامة من حجم 800 مليون شمس مجتمعة، حيث تشكل بعد مرور 690 مليون سنة فقط على الانفجار الكبير، عندما كان الكون لا يزال طفلاً رضيعاً.
أعلن باحثون، من بينهم إدواردو بانيادوس، في ورقة علمية نشرت في دورية نيتشر خلال الأسبوع الأول من شهر ديسمبر؛ عن وجود الثقب الأسود ونجمه الزائف اللامع المرافق له. كان علماء الفلك يبحثون عن أدلة على وجود ثقوب سوداء في تلك الأيام الأولى من عمر الكون، ولكن الدهشة تملكتهم نظراً للحجم الهائل لهذا الثقب الأسود، والذي حمل اسم "J1342+0928".
الثقوب السوداء عبارة عن نقاط من الكون تكون الجاذبية فيها في غاية الشدة لدرجة أنه لا يمكن لأي شيء أن يفلت منها؛ لا الصخور، ولا الغازات، ولا حتى الضوء. بالقرب من الثقوب السوداء الكبيرة، تلتف المواد المحيطة كالدوامة لتشكل شيئاً يسمى القرص النجمي التراكمي. تلتف المواد داخل القرص بسرعات تعادل آلاف الكيلومترات في الثانية، حيث ترتفع حرارتها نتيجة حركتها واصطدامها بالجزيئات الأخرى من الغبار والغاز، وكل ذلك يدور ضمن دوامة مسعورة تتجه نحو الفناء.
تلتف المواد نفسها باتجاه الأسفل إلى داخل الثقب الأسود، حيث تختفي إلى الأبد، ولكن تدافعها يطلق طاقة تتوجه نحو أعماق الكون على شكل حرارة وضوء ساطع بشدة. وذلك الضوء صنع النجم الزائف الذي تمكن بانيادوس ومن شاركه في تأليف الورقة العلمية من اكتشافه، والذي اعتمدوا عليه في تقدير كتلة j1342+0928 المذهلة.
يقول بانيادوس إن الثقب الأسود العادي الذي يتشكل عندما ينهار أحد النجوم؛ قد يمتلك كتلة تعادل من 50 إلى 100 من كتلة الشمس. يقوق بانيادوس موضحاً: "لو أردت أن تجعله يكبر، وقمت بتغذيته بمواد مثل الغازات من المناطق المحيطة به، وتركته يكبر لمدة 690 مليون سنة، فإنك لم تكن لتتمكن من الوصول إلى حجم هذا الثقب الأسود الهائل".
لمعرفة كيف تسنّى لهذا الثقب الأسود أن يصبح هائل الحجم وبهذه السرعة، يتعين على علماء الفلك الرصدي أن يتعاونوا مع علماء الفلك النظري وعلماء الفيزياء الفلكية. وفي هذا السياق، يبحث هؤلاء العلماء أيضاً في أسئلة أوسع نطاقاً إلى حد ما، مثل نظرية كل شيء. يقول بانيادوس: "هذا الجسم بعيد جداً، ومضيء جداً لدرجة أنه يوفر مختبراً لدراسة الكون في وقت مبكر من عمره".
اكتشف بانيادوس ما يقرب من نصف النجوم المزيفة المسجّلة على أنها الأكثر بعداً في كوننا، ولكن هذا النجم المزيف – على الرغم من أنه ليس الأكثر ضخامة – هو أبعدها جميعاً. نظراً لأن الضوء يستغرق وقتاً لكي يقطع المسافات، فإننا عندما ننظر إلى جسم ما في الفضاء، كلما ازداد بعده عنا، كلما عادت الحقبة الزمنية التي نشاهدها من خلاله إلى الوراء. وبالتالي فإن هذا الجسم يعود إلى حقبة زمنية مبكرة من عمر الكون، تسبق كل الحقب الزمنية التي ينتمي لها أي جسم سبق للعلماء الآخرين أن قاموا برصده.
يقول بانيادوس موضحاً: "إنه رقم قياسي جيد، ولكننا لا نقوم بهذا العمل لكي نسجل رقماً قياسياً". ويضيف: "إننا أمام حالة ناضجة للغاية لدرجة أنني سأصاب بالدهشة إذا كان هذا الجسم هو أول نجم زائف تشكّل في الكون على الإطلاق. آمل أن نتمكن نحن أو أي شخص آخر من تحطيم هذا الرقم القياسي قريباً".
هذا النجم الزائف تحديداً ساطعٌ بشدة لدرجة أنه يطغى على بريق المجرة التي يقع فيها، فهو يفوقه بمقدار 1000 ضعف. وليس الأمر أيضاً أن المجرة في مرحلة مترهلة من عمرها، على الرغم من أن النجم الزائف في مركزها يطغى عليها بأطوال الموجة الضوئية لكل من المجالين المرئي وفوق البنفسجي.
لحسن الحظ، إذا نظرت إلى المجرة وفق الأطوال الموجية الأطول، يمكنك عندها أن ترى بعض التفاصيل. وقد شارك بانيادوس بتأليف ورقة علمية أخرى صدرت خلال الأسبوع الأول من نوفمبر في دورية رسائل المجلة الفيزيائية الفلكية "ذا آسرتوفيزيكال جورنال ليترز" التي تركز على المجرة المحيطة بالثقب الأسود. حيث وجدوا في هذه الورقة ما يثبت أن المجرة كانت مكتظة بالغبار بين-النجمي، والذي أنتج في مكان ما حوالي 100 كتلة شمسية جديدة (الكتلة الشمسية = كتلة الشمس في مجرتنا) في السنة الواحدة. تجدر الإشارة هنا إلى أن مجرتنا تنتج ما يقرب من كتلة شمسية واحدة فقط في السنة.
كما تمكنوا أيضاً من رصد شيء قريب من جوار الفضاء المحيط بالثقب الأسود، حيث وجدوا أن نصف ذلك الحيز من الفضاء تقريباً لديه هيدروجين غير متأين (مما كان من شأنه أن يحجب الضوء، الأمر الذي أدى إلى تلك الحقبة الأولى التي استغرقت بضع مئات من ملايين السنين من الظلام في الكون)، ونصفه الآخر لده هيدروجين متأين، ما يشير إلى أن هذا الثقب الأسود ربما تكوّن في الفترة الزمنية التي تحول فيها الكون من الخضوع لهيمنة النوع الأول من الهيدروجين، إلى الخضوع لهيمنة النوع الثاني منه.
يقول بانيادوس: "إن الطريقة التي حدث بها ذلك، والفترة الزمنية التي وقع فيها؛ كان له آثار جوهرية على تطور الكون في وقت لاحق". ويضيف: "لكننا نحتاج إلى العثور على المزيد من الأجسام ومواصلة البحث عنها وعلى مسافات أبعد مما سبق أيضاً، ومحاولة تكرار تلك التجربة".
لحسن الحظ، هناك الآن المزيد من الفرص للاستقصاء عن تلك المواقع التي نشأ فيها الكون. في العام 2018، سوف يستخدم بانيادوس وغيره من الباحثين في جميع أنحاء العالم؛ مجموعة متنوعة من التلسكوبات لاستكشاف هذا الجسم بمزيد من التفاصيل، والبحث عن أجسام أخرى غيره في السماء ليلاً.
يقول بانيادوس: "نحن جيل محظوظ للغاية". ويضيف أخيراً: "نحن أول جيل من البشر يمتلك التكنولوجيا اللازمة لدراسة عدد من أوائل المجرات والثقوب السوداء التي تشكّلت في الكون وتوصيفها بشكل مفصل. إذا لم يكن ذلك أمراً رائعاً، فأنا لا أعلم كيف يفترض للأمر الرائع أن يكون".