هناك أمر يتعلق بهندسة الفضاء (الهندسة الفراغية) لم أتمكن من فهمه يوماً بشكل جيد. أنا أعلم أن ميلان محور الأرض هو المتسبب بوجود فصول لدينا على مدار العام الواحد، ولكن إذا كان بإمكان ميلانٍ طفيفٍ عن الشمس أن يجعلني أرى أنفاسي في فصل الشتاء، فلماذا كوننا أقرب بمقدار 4.828 مليون كيلومتر لا يجعلني أذوب في بركة من العرق الذي يتصبب مني آنذاك؟
هل حقاً لا يكون الجو أكثر حرارة عندما تكون المسافة التي تفصلنا عن نجمنا أقصر ما يمكن؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما أهمية ميلان محور الأرض بمقدار 23.5 درجة على أي حال؟ يتعين عليّ استخدام جوجل مرة أخرى كل عام للبحث عن أجوبة لهذه الأسئلة عندما يحين موعد الحضيض الشمسي، وهي النقطة التي نكون فيها أقرب ما يكون إلى الشمس.
على الرغم من كون 21 ديسمبر هو أقصر أيام السنة في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، فإننا لا نصل إلى نقطة الحضيض حتى أوائل يناير، وذلك عندما تحصل الأرض على الكمية الأكثر كثافة من أشعة الشمس التي يمكن أن تتلقاها على مدار العام الواحد. إن متوسط ما نتلقاه في يناير من أشعة الشمس على كامل سطح الأرض يفوق ما نتلقاه في يوليو بنسبة 7%.
ولكن اتضح أن تأثير المسافة التي تفصلنا عن الشمس في الواقع ضئيلٌ للغاية على درجات الحرارة التي نتعرض لها. فهي تتأثر بشكل أكبر بكثير بالزاوية التي يرِدُ وفقها الضوء إلينا.
فالضوء الذي يردُ إلى سطح ما بزاوية 90 درجة يوفر أفضل وضعية ممكنة للإضاءة المباشرة. في ذروة فصل الشتاء في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، تسقط أشعة الشمس مباشرة على مدار الجدي، الذي يقع تحت خط الاستواء بمقدار 23.5 درجة.
وبالتالي يتلقى هذا النطاق من سطح الأرض أفضل إضاءة مباشرة (عمودية)، في حين تتعرض المناطق الأخرى من الأرض لأشعة الشمس وفق زاوية مختلفة، وهذا يعني أن نفس المقدار من الطاقة في كل شعاع ضوئي (بشكل مجازي) ينتشر على مساحة أكبر، ما يتسبب بإضعاف آثار التسخين في أي نقطة من هذه المناطق.
لنتخيل حزمة من الضوء بعرض 1.6 كيلومتر – أي 1 ميل – (ولنتجاهل للحظة أن هناك بعداً ثالثاً، بهدف التبسيط فقط). عندما تسقط حزمة الضوء بزاوية 90 درجة، فإنها تستخدم كامل طاقتها في تسخين نطاق بعرض 1.6 كيلومتر. أما حين تسقط نفس هذه الحزمة بزاوية 30 درجة، فسوف تنتشر على مدى 3.2 كيلومتر (ضعف ما سبق)، لتنخفض بذلك شدتها إلى النصف في كل نقطة مضاءة. يمكنك أن تتصور هذا المثال بشكل أفضل باستخدام مصباح يدوي صغير. سلط ضوء المصباح على قطعة من الورق موضوعة بشكل شاقولي، وسترى دائرة تامة من الضوء. احرف الورقة عن الشاقول قليلاً لتحصل على قطع ناقص أكثر تمدداً. يحدث نفس الأمر تقريباً مع الأرض، باستثناء أن كوكبنا كروي الشكل ومكون بمعظمه من الصخور.
كان ليشكل قربنا من الشمس عاملاً أكثر أهمية لو كانت تمدنا بالحرارة عن طريق النقل الحراري. كما في حالة الفرن الحار، يعتمد النقل الحراري على وسط ناقل مثل الهواء لكي ينقل الحرارة إلى الهدف. ولكن الفضاء خالٍ من الهواء، وعدم وجود غازات أو سوائل لتوفر آلية النقل الحراري، يحتّم على الشمس أن تعتمد على آلية التسخين الإشعاعي. فالأمواج الكهرطيسية تحمل الطاقة التي تقوم عند وصولها إلينا بتسخين جزيئات الهواء والأرض، بدلاً من أن تكون حارة عند وصولها وتقوم بنقل تلك الحرارة.
إنها ذلك النوع نفسه من التسخين الذي يجعل النار المشتعلة تشعّ حرارةً عاليةُ باتجاه وجهك في حين لا يتلقى ظهرك تلك الحرارة، فالنار لا تقوم بتسخين الهواء، وإنما هي ترسل موجات الطاقة التي ترفع من حرارة بشرتك. في كافة أوقات السنة، تبعد الشمس عنا أكثر من 145 مليون كيلومتر، وبالتالي فإن إضافة أو طرح نحو 5 ملايين كيلومتر لن تحدث فارقاً في حرارة التسخين الإشعاعي التي يمكننا أن نشعر بها.
كلما كانت أشعة الشمس أكثر كثافة وشدة، كلما ازدادت كمية الطاقة التي تحملها والحرارة المشعّة الكامنة فيها، وبالتالي فإن ما يهمّ حقاً هو كثافة الحزم الضوئية القادمة إلينا، وليس مدى قربنا من مصدر هذه الحزم. وبالتالي فإن تعرّض النصف الشمالي من الكرة الأرضية لأشعة الشمس الأقل كثافة وشدة خلال شهر يناير، مع ساعات أقل من التعرض للحرارة كل يوم؛ يقود إلى الاستنتاج بأنه كلما تقدمت أكثر باتجاه الشمال كلما كان الشتاء أكثر برودة.
ولكن ذلك يقودنا إلى سؤال آخر: إذا كان نصف الكرة الجنوبي يحصل على ضوء أكثر كثافة خلال فصل الصيف الخاص به، فهل هذا يعني أن شهر يناير في النصف الجنوبي يكون أشد حرارة مما يكون عليه شهر يوليو في النصف الشمالي؟
إن ما يثير الدهشة – بعد أن أوضحنا على وجه التحديد بأن شدة الضوء هي العامل المهم – هو أن يناير يكون أشد حرارة خلال فصول الصيف في نصف الكرة الشمالي. على الرغم من أننا نحصل على قدر أقل من الحرارة الناجمة من الشمس، فهناك مساحات أكبر من اليابسة في النصف الشمالي.
فالمحيطات في نصف الكرة الجنوبي لديها كميات أكبر بكثير من المياه، وبما أن الماء قادر على امتصاص الكثير من الحرارة دون أن يتسبب ذلك بارتفاع كبير في حرارة الجو (وهي خاصية تسمى سعة الحرارة النوعية العالية)، فإن المنطقة التي يتواجد فيها الكثير من الماء تكون أكثر برودة. فالأرض تسخن بسرعة إلى حد ما، لذلك على الرغم من انخفاض شدة الضوء الذي تتعرض له، تكون فصول الصيف الشمالية أشد حرارة في نهاية المطاف.
ها قد تبين لكم الأمر برمته الآن. نحن الآن نبتعد عن الشمس أكثر فأكثر إلى أن نصل إلى أبعد نقطة ممكنة عنها، وهي نقطة الأوج التي تحدث في شهر يوليو. هذا ما ينبغي للهندسة الفراغية أن تعنيه لك.