يتطلّب ظهور الحياة وتطورها على الأرض تكافل مجموعة هائلة من الظروف بطريقة معينة. يمكن أن يُحدث تغيير طفيف في الجاذبية، أو اختلاف بسيط في إحدى القوى الأساسية الأخرى الفرق بين كون يدعم ظهور الحياة وآخر لا يدعمها.
قادت هذه الفكرة بعض العلماء للتفكير في الاحتمالات الأخرى التي كان يمكن أن تتحقق، والتساؤل عن سبب تشكّل البنى المعقدة مثل المجرات والكواكب والحياة نظراً لأن تشكّلها لم يكن الاحتمال الوحيد، وهو أمر يسمى بـ «الضبط الدقيق» للكون. يشرح تقرير جديد نشره معهد «الأسئلة البنيوية» التطورات الحديثة في نقاش مستمر حول ما إذا كان الكون قد تم ضبطه، وماذا يعني ذلك.
خصائص ثابتة تحدد شكل الكون
للكون الكثير من الخصائص الثابتة التي تحدد الشكل الذي أخذه، مثل قوة الجاذبية أو الثابت الكوني، والذي يقيس مدى سرعة توسع الكون. لقد فكر الفيزيائيون في سبب كون هذه القيم على ما هي عليه لمدة قرن على الأقل، وحاولوا العثور على إجابات علمية لهذا السؤال على مدى عقود.
استناداً إلى النماذج النظرية، يجادل بعض العلماء بأنه إذا كان أحد الثوابت الأساسية العديدة للكون مختلفاً بشكل كبير، فلن تكون الحياة قادرة على النشوء. يؤدي هذا إلى معضلة: إذا كان من غير المرجّح أن يتمتع الكون بكل القيم المناسبة الضرورية لتشكّل الحياة، لماذا تحقق إذاً هذا الاحتمال الصغير؟
على الرغم من التبعات العميقة لهذه المسألة، لا يزال هذا المجال حديثاً إلى حد ما. يقول «غيرانت إف. لويس»، عالم الكونيات والفيزياء الفلكية في معهد سيدني لعلم الفلك في جامعة سيدني في أستراليا، والذي لم يشارك في التقرير الأخير: «لا يفكّر معظم الفيزيائيين في مسألة الضبط الدقيق كثيراً، ولم يسمع الكثير منهم بها»، ويضيف: «هذا لأن معظم مجالات الفيزياء تركّز على دراسة هذا الكون كما هو». يُعتبر لويس استثناء، إذ أنه شارك في تأليف كتاب في عام 2016 عن الضبط الدقيق. يقول لويس إن هذا الموضوع يختلف عليه الكثيرون، ويمكن أن يصبح متعلقاً بالفلسفة أكثر من العلم.
الأكوان المتعددة لحل معضلة تحقق الاحتمال الضئيل
لا يكترث بعض العلماء بهذه المصادفة الظاهرة. لكن بالنسبة للآخرين، أصبحت فكرة «الأكوان المتعددة»، والتي تسمح بوجودها نظرية الأوتار، طريقة شائعة لحل هذه المعضلة. إذا كان هناك عدد لا نهائي من الأكوان، فلا ينبغي أن يكون غريباً أن يكون أحدها يمتلك ظروفاً مناسبة لتطوّر الحياة. مع ذلك، فإن نظرية الأوتار تخمينية إلى حد كبير، ويرى بعض العلماء أن فكرة الأكوان المتعددة غير علمية، لأنهم لم يجدوا طريقة لاختبار صحة هذه الفرضية.
استخدم اللاهوتيون وحتى بعض العلماء حجة الضبط الدقيق للإشارة إلى أن الكون يجب أن يكون قد خُلق ليناسب تشكّل الحياة. لكن الأبحاث الحديثة في هذا المجال توفر بدائل أخرى، وتشير إلى أن الضبط الدقيق نفسه قد يكون مجرد وهم، ربما بسبب الافتقار إلى القدرة على رؤية صورة أشمل في تحليلات الأكوان المختلفة المحتملة. جادل بعض العلماء بأن هذا الكون، على الرغم من أنه أنتج الحياة، إلا أنه ليس رفيقاً بها على النحو الأمثل.
اقرأ أيضاً: مهمة جوس الفضائية ستبحث عن آثار للحياة على أقمار كوكب المشتري
غياب "نظرية كل شيء"
تقول «ميريام فرانكل»، محررة العلوم في موقع «ذا كونفيرسيشن»، والصحفية المستقلة التي كتبت التقرير الجديد: «ربما الموضوع ليس بسيطاً كما كنا نعتقد». تقول فرانكل إنه عند الغوص في هذه الأسئلة الكبيرة، ستدرك «مقدار ما هو مفقود بالفعل من الفيزياء». لا يزال الفيزيائيون يفتقرون لوجود «نظرية كل شيء». على سيبل المثال، جعلت نتائج تجربة «مييون جي-2»، والتي أجريت في 2021، بعض العلماء يتحدثون عن احتمالية وجود قوة طبيعية خامسة في الكون من شأنها أن تغير الفيزياء بشكل كبير.
كتبت فرانكل في التقرير أنه على قدر ما تبدو فرضية الأكوان المتعددة جذابة بالنسبة للبعض، إلا أنها في الحقيقة ترفع الجدل حول الضبط الدقيق إلى مستوى أعلى فقط. إذا كنا نعيش في كون من أكوان متعددة، فكيف تشكلت الأكوان المتعددة وكيف تم ضبطها بدقة بدورها؟
يقول لويس إن التقرير يبين أن «مسألة الضبط الدقيق ليست محلولة بعد».
اقرأ أيضاً: 4 عوالم في النظام الشمسي يحتمل وجود الحياة فيها
تأثير الثوابت الكونية على تشكل الحياة
أثّرت الثوابت الكونية بشكل مباشر في تشكّل الحياة من خلال تكوين النجوم والعناصر التي تنتجها النجوم. ينص التقرير على أنه إذا تغيّرت قيمة أساسية مثل شدة القوة الكهرومغناطيسية، سيغيّر ذلك طريقة تشكل النجوم، ويمكن أن يمنعها من إنتاج الكربون، وهو عنصر ضروري للحياة على الأرض.
مع ذلك، تقول فرانكل إن بعض النماذج النجمية تشير إلى أن النجوم أكثر تنوعاً مما كان يعتقد العلماء، لذا فقد تكون قادرة على خلق ظروف تشكُّل الحياة في ظل قيم مختلفة للثوابت الكونية.
من الممكن أيضاً تصور أن الحياة يمكن أن تتشكل بدون الكربون، إلا أن النظريات التي تبين إمكانية تشكّل الحياة بناءً على عنصر آخر، وهو السيليكون، ليست رصينة للغاية. يميل العلماء إلى البحث عن طرق يمكن أن تتشكل بها الحياة الشبيهة بتلك الموجودة على الأرض خارجها، لكنهم في النهاية لا يعرفون شكل الحياة التي يمكن أن تتشكل في كون له قيم ثوابت مختلفة، والتي من المحتمل أن تكون غريبة للغاية بالنسبة لنا.
ركزت معظم الأبحاث التي درست ما يحدث عند تغيير الثوابت الكونية على ثابت واحد فقط في كل مرة. على سبيل المثال، إذا كانت قوة الجاذبية أضعف أو أقوى كثيراً، فإنها ستمنع تشكّل الحياة كما نعرفها. لكن الأدلة الحديثة تشير إلى أن احتمال أن يتسبب تغير عدة ثوابت معاً بنشوء كون صالح للحياة كبير، وهو، حسب التقرير الجديد، أمر يجعل التغيرات المختلفة توازن بعضها بعضاً.
أشارت تجارب أخرى إلى أن الثابت الكوني الذي يتعلّق بتوسع الكون ربما يكون قد تغير بمرور الزمن، ما يعني أنه لا يمكن اعتباره ثابتاً على الإطلاق. ينص التقرير على أنه إذا كانت هذه النتائج وأخرى شبيهة بها صحيحة، فإنها ستضعف مفهوم الضبط الدقيق بالكامل. ستكون مزايا الكون الأساسية متغيرة باستمرار، ولو ببطء، ولن تكون مضبوطة بدقّة بشكل مثالي.
في الأساس، من الصعب تحديد مدى غرابة كوننا. يقول لويس: «كيف يمكننا القول إن هذا الكون غريب مع العلم أننا لا نعرف ما طبيعة الكون النموذجي؟».
اقرأ أيضاً: قد يكون المريخ مكاناً رائعاً للحياة… لكن ليس لنا!
مجال مشوش بين الفلسفة والعلوم
في الواقع، قد لا نجد أبداً إجابات مباشرة لهذه الأسئلة. يقول «جيسون والر»، الفيلسوف في جامعة كينيون، والذي ألف كتاباً في 2020 حول المحاججات المتعلقة بالضبط الدقيق: «أعتقد أن طريقة تأطير النقاش في الوقت الحالي هي في الواقع مشوشة إلى حد ما، وذلك لأنني أعتقد أن المسائل الأساسية في هذا السياق ليست علمية».
يعتقد والر أن محاولات تفسير الضبط الدقيق للكون تُغفل الحقيقة الأساسية المتمثلة في أنه سيكون هناك دائماً مستوى أعمق يحتاج إلى التفسير. إذا كانت فرضية الأكوان المتعددة، أو الواقع المحاكى، أو حتى بعض الكيانات الشبيهة التي تنحدر من روايات ميتافيزيقية هي التفسير، فسينتهي بنا المطاف مجدداً بطرح السؤال ”لماذا هذا هو التفسير وليس شيئاً آخر؟“».
والر أقل اهتماماً بالحد الفاصل بين العلم والفلسفة، وأكثر اهتماماً بما هو حقيقي وكيف يبرر الناس معتقداتهم، إذ يقول: «مجرد أننا لا نملك برهاناً علمياً، أو أن التفسير تخميني، فهذا لا يعني أن جميع الإجابات محتملة بشكل متساوٍ»، إذ أن بعض الاعتقادات ستكون أكثر أو أقل ترجيحاً.
يقول والر إنه باستثناء الاكتشافات غير المتوقعة تماماً التي تغير فهمنا للكون تماماً، «أعتقد أن الاكتشافات ستكون مفاهيمية أو فلسفية وليست علمية».