عندما يتعلق الأمر باستكشاف الفضاء، فقد كان دون جرونيت شاهداً حياً. فهو لا يزال يتذكر بوضوح كيف شاهد من غرفة معيشته أول محاولة أميركية لإطلاق قمر صناعي، مشروع فانغارد، وهي تنفجر على منصة الإطلاق. وعندما تتاح له الفرصة للحديث عن المساعي الكونية الحديثة، تجده يتحدث بشاعرية عن الأمطار الهيدروكربونية التي تتساقط في برك من الميثان على القمر تيتان. لقد كان حاضراً ليشهد كل شيء، ويبدو أنه لم يكتف بعد.
كان جورنيت طالباً مستجداً يبلغ من العمر 17 عاماً – بعد أسبوعين فقط من بداية مقررات الهندسة التي التحق بها في جامعة أيوا – عندما أطلق العلماء في الاتحاد السوفييتي (سابقاً) "سبوتنيك 1" في 4 أكتوبر من العام 1957. أثار هذا القمر الصناعي الذي يبلغ وزنه حوالي 84 كيلوجراماً موجة عارمة من الابتكارات والاستثمارات في مجالات العلوم، التكنولوجيا، الهندسة والرياضيات. خلال تلك الفترة، أدت التطورات المتلاحقة إلى تعزيز التوجهات البحثية المستقبلية عند جرونيت، وأغلب الظن أنها تعززت حتى قبل أن تبدأ.
يقول جورنيت: "لقد دونوا على الورق جداول تحدد الأزمنة والأماكن التي يمكنك فيها الخروج ومشاهدة المركبة الفضائية وهي تنطلق نحو السماء". ويضيف: "دائماً ما كان يمكنك مشاهدتها بعد غروب الشمس. حيث تبقى سبوتنيك ضمن نطاق أشعة الشمس (على ارتفاع 578 كيلومتراً)، في حين يكون الظلام قد حل عند سطح الأرض. يمكنك رؤيتها وهي تحلق في الأعلى، وأتذكر أن المشهد أعجبني بشدة".
كان جورنيت يعلم أكثر من معظم أبناء جيله ما الذي تتطلب الأمر من السوفييت ليتمكنوا من وضع "سبوتنيك 1" في مدار حول الأرض. حتى خلال المرحلة الثانوية، تناول بنهم الكثير من الكتب والمقالات التي تتحدث عن علم الصواريخ والملاحة الجوية. يقول جورنيت: "لقد تمكنت حقاً من بناء الصواريخ في المرحلة الثانوية". ويضيف: "حصلت على الملح الصخري، الفحم، والكبريت وعثرت على صيغة في أحد الكتب التي تتحدث عن الصواريخ الصينية القديمة".
إلى جانب تجاربه في علم الصواريخ التي كان يجريها في الفناء الخلفي لمنزله، شارك جورنيت في النادي المحلي لنماذج الطائرات. وقد صادف أن ضمت تلك المجموعة من المشاركين عالم الصواريخ الألماني ألكسندر ليبيش الذي اخترع طائرة "ميسرشميت مي 163 كوميت" الاعتراضية، وهي طائرة مقاتلة تعمل بقوة الدفع الصاروخي حلقت خلال الحرب العالمية الثانية.
ليس من المستغرب أن جورنيت فاز بالبطولة الوطنية لنماذج الطائرات في العام 1956.
إلا أن جورنيت مع مشروع سبوتنيك، لم يعزز اهتمامه بالطائرات فحسب، بل وصل به الأمر إلى البعثات البعيدة خارج حدود الغلاف الجوي. وقد حالفه الحظ في تلك الفترة، ففي خريف العام 1957، كان العالم جيمس فان آلن يعمل على أدوات يمكنها التحليق على متن "إكسبلورر 1"، وهي الرد الأميركي على المركبة سبوتنيك. وكان يعمل على هذا المشروع في جامعة أيوا.
بعد الإطلاق الناجح للقمر الصناعي "إكسبلورر 1"، سرعان ما تقرّب جورنيت من فان آلن، الذي كان قد اكتشف للتو وجود حزام إشعاعي حول الأرض، ويجري نشر صورته على غلاف مجلة التايم في تلك الفترة. يقول جورنيت: "ذهبت إلى مكتبه وطلبت منه العمل لديه". نظراً لخبرته السابقة في مجال نماذج الطائرات المسيرة بالإشارات الراديوية، حصل جورنيت على عمل، وانضم إلى فريق فان آلن الجديد كطالب هندسة جامعي.
يقول جورنيت، مندهشاً حتى بعد مضي ستين عاماً من سرعة التحول: "كان الأمر أشبه بأن تكون في المكان والزمان المناسبين. عملت في المرحلة الثانوية وصنعت الصواريخ، وبعد مرور أقل من عامين على ذلك، كنت أعمل على صواريخ حقيقية في ’’كيب كينيدي‘‘".
كانت السنوات الأولى محمومة، حيث خصص جرونيت بانتظام ستين ساعة من العمل أسبوعياً في ورشة الإلكترونيات.
يستحضر جورنيت ذاكرته قائلاً: "لقد بنينا مركبة فضائية معقدة خلال ستة أشهر، والذي كان أمراً لم يسمع به أحد من قبل في تلك الأيام". ويتمنى لو أنه يعلم شيئاً عن عمل مماثل في تلك الفترة. منذ انضمامه إلى برنامج الفضاء، شارك في 41 بعثة، حيث قام مكتب البحوث البحرية بتمويل البعثات في البداية، لتتولى ناسا تمويلها بعد ذلك. كان عمله يشمل كل شيء، من الأقمار الصناعية الصغيرة الأولى، إلى الضخمة منها مثل كاسيني. حتى أن مجال العمل الذي اختاره، سمح له خلال الحرب الباردة بزيارة الاتحاد السوفييتي (سابقاً) للمشاركة في مؤتمرات دولية عن الفضاء والفيزياء.
يقول جورنيت: "لقد كان واحداً من المجالات القليلة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في تلك الأيام؛ التي شهدت تواصلاً فعلياً بين الطرفين. لا أعلم إن كان هناك أي مجال آخر حظي فيه المجتمع الأميركي هذا النوع من التواصل". حيث أقام علاقات صداقة مع عدد من نظرائه السوفييت (تحت رقابة عملاء الاستخبارات السوفييتية بالطبع).
ولكن من دون شك، كما يقول جورنيت، إن مهمته المفضلة كانت تلك التي أطلق فيها مسبار فوياجر الفضائي منذ 40 عاماً، كان قد مضى حينها 20 عاماً بعد أن شقت "سبوتنيك 1" طريقها في سماء أيوا ساعة الغسق.
تمكنت فوياجر في النهاية من الوصول إلى الحدود الخارجية لنظامنا الشمسي منذ 4 أعوام فقط، لتمر بحواف الفضاء الممتد بين النجوم.
تستغرق إشارة المركبة الفضاء الآن حوالي 19 ساعة للعودة إلى الأرض، وتبتعد أكثر فأكثر كل يوم. يقول جورنيت: "تأمل فقط بكل الأشياء التي حققناها. لقد أرسلنا مركبات فضائية إلى كل كوكب في المجموعة الشمسية. هناك كتب عن علم الفلك مليئة بالمعلومات عن الكواكب الأخرى والأقمار التي تدور حولها، ومدى اختلاف البعض منها عن كوكب الأرض". ويضيف: "لقد حققت الأبحاث الفضائية نجاحات هائلة على مدى السنوات الستين الماضية".
لا يتوقع جورنيت الانضمام إلى أي بعثة جديدة – فهو يخطط للتقاعد في غضون عامين – ولكنه يرغب برؤية أقمار صناعية يتم إرسالها إلى كل من نبتون وأورانوس، الكوكبين الذين لم تتم دراستهما بعد بتفصيل كبير. وهو يريدنا أيضاً أن نحقق خطوة عظيمة إضافية: فهو يتطلع لرؤيتنا نحقق أول عملية مغادرة للغلاف الجوي للأرض، ويرغب بأن يشهد إحدى محاولاتنا لمغادرة جوارنا الشمسي أيضاً.
يقول جورنيت: "لن أكون شاهداً، ولا حتى أي منا سيكون شاهداً على اليوم الذي يتمكن فيه البشر من الوصول إلى أحد النجوم المجاورة، ولكننا نستطيع الوصول إلى وسط يمتد بين النجوم إذا واصلنا جهودنا لتحقيق ذلك".
حسب زعمه، ليس لدى جورنيت خطط للقيام بنفسه بحملة رامية لإرسال مسبار متنقل بين النجوم، ولكنه يعترف مع ابتسامة تظهر في صوته بأنه لا يزال يحب الحديث عن الأمر.
يقول جورنيت: "إذا أردت أن ترى بريقاً يلمع في عين أحد العلماء، فهذا ما تفعله هذه الفكرة بي. أقمار أورانوس ونبتون الصناعية، ومسبار متنقل بين النجوم". فمع أن فوياجر لاتزال تبتعد أكثر فأكثر خارج النظام الشمسي، فمن المرجح أن طاقتها ستنفذ قبل أن تتمكن من الإفلات من تأثيره.
قد يكون المسبار الذي يتم تخصيصه لاستكشاف الفضاء بين النجوم أكثر حظاً، إذا تمكن الجيل القادم من مهندسي الصواريخ من معرفة كيفية إرسال هذه المركبات الفضائية إلى هناك. يقول جورنيت إن رواد الاستكشاف في المستقبل سيتعين عليهم الالتزام لوقت طويل حتى يتمكنوا من متابعة تقدم المشروع. بعد أن كرس حياته كلها لاستكشاف الفضاء، لا شك أن جورنيت يعرف الكثير عن ماهية هذا الالتزام.
على الرغم من أن بعضاً من بعثاته مازالت مستمر بقوة، مثل فوياجر، إلا أنه أنهى العمل على العديد من المشاريع التي كان يعمل عليها، بما في ذلك كاسيني العنيد. لقد أراد الذهاب إلى ما أشار إليه باسم تأبين كاسيني، ولكنه مكث في المستشفى في ذات اليوم الذي تحطمت فيه المركبة الفضائية على سطح زحل. ثم تعافى منذ ذلك اليوم ليعود إلى العمل من جديد.
بعد ستين عاماً من إطلاق سبوتنيك إلى الفضاء، لا يزال هناك الكثير من الحدود لكي نحطمها. ولا يزال هناك الكثير من البشر مثل جورنيت ينتظرون فرصتهم ليظهروا للعالم ما الذي يمكنهم فعله.