هذا الصيف، ستطلق ناسا المسبار الشمسي باركر ليقترب من الشمس، ويتوغل في الغلاف الجوي الشمسي، أكثر من أية بعثة سابقة. ولو كانت المسافة بين الأرض والشمس متراً واحداً، فسوف يصل المسبار الشمسي باركر إلى نقطة تبعد حوالي 11 سنتمتر عن سطح الشمس.
ضمن ذلك الجزء من الغلاف الجوي الشمسي، توجد منطقة تعرف باسم الهالة الشمسية، حيث سيجري المسبار الشمسي باركر قياسات غير مسبوقة حول ما يحفز انطلاق هذا النطاق الواسع من الجسيمات والطاقة والحرارة، والتي تسري عبر المنطقة، وتقذف بالجسيمات نحو النظام الشمسي وصولاً إلى نبتون.
بطبيعة الحال، تبلغ الحرارة داخل الهالة درجات عالية للغاية. وستخترق المركبة الفضائية وسطاً مادياً بحرارة تفوق النصف مليون درجة مئوية، مع التعرض لضوء شديد من الشمس.
إذاً، ما الذي يمنعها من الذوبان؟
صُمم المسبار الشمسي باركر لتحمل الظروف القاسية وتقلبات درجات الحرارة في المهمة. ويمكن السر في الدرع الحراري الخاص، ونظام آلي يساعد على حماية البعثة من ضوء الشمس الشديد، ولكنه في نفس الوقت يسمح للمواد في الهالة بأن "تلمس" المركبة الفضائية.
المبادئ العلمية التي تحميه من الذوبان
حتى نفهم ما الذي يحافظ على المركبة الفضائية وتجهيزاتها من الأذى، يجب أن نفهم الفرق ما بين مفهومي الحرارة ودرجة الحرارة. وعلى عكس الاعتقاد البديهي، فإن درجات الحرارة المرتفعة لا تؤدي دوماً إلى تسخين جسم آخر.
المسبار الشمسي باركر من ناسا يتجه نحو الشمس. ما الذي يحميه من الذوبان؟ توضح بيتسي كونجدون، وهي مهندسة نظام الحماية الحرارية (من مختبر الفيزياء التطبيقية في جامعة جونز هوبكنز) بشكل عام كيف يتحمل باركر الحرارة المرتفعة. المصدر: مركز جودارد للتحليق الفضائي التابع لناسا
في الفضاء، يمكن أن تصل درجات الحرارة إلى آلاف الدرجات دون إيصال حرارة كبيرة إلى جسم ما، أو الشعور بالحر. لماذا؟ تعبر درجة الحرارة عن سرعة حركة الجسيمات، على حينالمسبار الشمسي باركر من ناسا يتجه نحو الشمس. ما الذي يحميه من الذوبان؟ توضح بيتسي كونجدون، وهي مهندسة نظام الحماية الحرارية (من مختبر الفيزياء التطبيقية في جامعة جونز هوبكنز) بشكل عام كيف يتحمل باركر الحرارة المرتفعة. المصدر: مركز جودارد للتحليق الفضائي التابع لناسا تعبر الحرارة عن إجمالي الطاقة التي تنقلها. قد تكون الجسيمات في حالة حركة سريعة (أي درجة حرارة مرتفعة)، ولكن إذا كان عددها قليلاً، فلن تنقل مقداراً كبيراً من الطاقة (حرارة منخفضة)، وبما أن الفضاء خالٍ بشكل عام، يوجد عدد قليل جداً من الجسيمات التي يمكن أن تنقل الطاقة إلى المركبة الفضائية.
على سبيل المثال، فإن منطقة الهالة التي سيحلق المسبار الشمسي باركر ضمنها ذات درجة حرارة مرتفعة للغاية، ولكن كثافتها شديدة الانخفاض. يمكنك أن تتخيل الوضع كمقارنة بين وضع يدك في فرن ساخن ووضعها في قدر من الماء المغلي (لا ننصحك بإجراء هذه التجربة في المنزل)، ففي الفرن يمكن أن تتحمل يدك درجات حرارة أعلى لفترات أطول بالمقارنة مع الماء، حيث تتفاعل يدك مع الكثير من الجسيمات. وبنفس الطريقة، فإن الهالة أقل كثافة بكثير من السطح المرئي للشمس، وبالتالي فإن المركبة الفضائية ستتفاعل مع عدد أقل من الجسيمات الحارة، ولن تتلقى الكثير من الحرارة. يعني هذا أن المسبار الشمسي باركر سيحلق عبر فضاء تبلغ فيه درجة الحرارة عدة ملايين من الدرجات، ولكن سطح الدرع الحراري المواجه للشمس لن يسخن إلى أكثر من حوالي 1,400 درجة مئوية.
الدرع الذي يحميه
بالطبع، فإن آلاف الدرجات المئوية ليست بالبرودة المريحة، وللمقارنة، نذكر أن حرارة الحمم البركانية تتراوح بين 700 و 1,200 درجة مئوية. ولاحتمال هذه الحرارة، يعتمد المسبار الشمسي باركر على درع حراري يعرف باسم نظام الحماية الحرارية، والذي يبلغ قطره 2.4 متر وسماكته حوالي 115 مليمتر. وعلى الجهة الأخرى من هذه السماكة، يجب أن يستقر جسم المركبة الفضائية على درجة حرارة مريحة تبلغ 30 درجة مئوية.
تم تصميم نظام الحماية الحرارية في مختبر الفيزياء التطبيقية في جامعة جونز هوبكنز، وبني في شركة كاربون كاربون أدفانسد تكنولوجيز، باستخدام رغوة كربونية مركبة متوضعة بين صفيحتين كربونيتين. ويترافق هذا العزل خفيف الوزن مع لمسة نهائية من الطلاء الخزفي الأبيض على الصفيحة المواجهة للشمس، لعكس كل ما يمكن من الحرارة. اختبر النظام لتحمل حرارة تصل إلى 1,650 درجة مئوية، ويمكن أن يتحمل أية حرارة ترسلها الشمس إليه، محافظاً على سلامة أغلب التجهيزات.
بيتسي كونجدون من مختبر الفيزياء التطبيقية في جامعة جونز هوبكنز، وهي المهندسة الحرارية الأساسية التي تعمل على الدرع الحراري المستخدم لحماية المسبار الشمسي باركر التابع لناسا من حرارة الشمس. وتبلغ قوة الدرع حداً يمكن من تعريض إحدى الجهتين لمشعل لحام مع بقاء الجهة الثانية باردة بما يكفي للمس. المصدر: مركز جودارد للتحليق الفضائي التابع لناسا.
الكأس الذي يقيس الرياح
على الرغم من كل ما ذكر سابقاً، فلن تقبع جميع معدات المسبار الشمسي باركر مختبئة خلف نظام الحماية الحرارية.
يطل المسبار الكأسي الشمسي برأسه من خلف الدرع الحراري، وهو أحد جهازين غير محميين بالدرع، والمسمى بكأس فاراداي، وهو حساس مصمم لقياس تدفق الإلكترونات والأيونات وزوايا التدفق من الرياح الشمسية. ونظراً لشدة الظروف في الغلاف الجوي الشمسي، كان يجب تصميم تقنيات فريدة من نوعها للتأكد من قدرة الأداة على الصمود، وقدرة الإلكترونيات فيها على إرسال القراءات الصحيحة.
بالنسبة للكأس نفسه فهو مصنوع من صفائح من التيتانيوم – الزيركونيوم – الموليبدينيوم، وهي إحدى خلائط الموليبدينيوم، بدرجة ذوبان تصل إلى حوالي 2,349 درجة مئوية. أما الشرائح التي تنتج الحقل الكهربائي للمسبار الكأسي الشمسي فهي مصنوعة من التنجستين، وهو معدن بأعلى درجة ذوبان معروفة عند 3,422 درجة مئوية. عادة ما يستخدم الليزر لرسم الخطوط الشبكية على هذه الشرائح، ولكن نظراً لارتفاع درجة حرارة الذوبان، استخدم الحمض بدلاً منه. أما التحدي الآخر فهو التوصيل الإلكتروني، حيث أن معظم الكابلات يمكن أن تذوب من التعرض للإشعاع الحراري عند هذه المسافة القريبة من الشمس. ولحل هذه المشكلة، قام الفريق بتشكيل أنابيب بلورية من السفير لاحتواء الأسلاك، والتي صنعت بدورها من النيوبيوم.
للتأكد من قدرة الأداة على تحمل البيئة القاسية، توجب على الباحثين محاكاة الإشعاع الشمسي الحراري الشديد ضمن المختبر. ولتحقيق حرارة جديرة بالاختبار، استخدم الباحثون مسارع جسيمات وأجهزة إسقاط آي ماكس تم تعديلها لزيادة حرارتها. تحاكي أجهزة الإسقاط حرارة الشمس، على حين أن مسارع الجسيمات يعرض الكأس للإشعاع للتأكد من قدرته على قياس الجسيمات المسارعة ضمن هذه الظروف القاسية. وللتأكد تماماً من قدرة المسبار الكأسي الشمسي على احتمال الظروف القاسية، استخدم فرن أوديلو الشمسي، والذي يركز حرارة الشمس باستخدام 10,000 مرآة قابلة للتعديل، لاختبار الكأس في مواجهة مع الانبعاثات الشمسية الشديدة.
وبالفعل، اجتاز المسبار الكأسي الشمسي الاختبارات بنجاح باهر، واستمر بتأدية عمله بشكل أفضل وإعطاء نتائج أكثر وضوحاً مع ازدياد تعرضه لبيئات الاختبار. يقول جستن كاسبر، المفتش الرئيسي لأدوات الرياح الشمسية والإلكترونات وجسيمات ألفا والبروتونات في جامعة ميشيغان في آن أربور: "نعتقد أن الإشعاع أزال أية ملوثات يحتمل وجودها، أي أن الأداة نظفت نفسها بنفسها بشكل أساسي".
المركبة الفضائية ذات الأعصاب الباردة
توجد عدة تصاميم أخرى لحماية المسبار الشمسي باركر من الحرارة. وبدون حماية، فإن الألواح الشمسية، والتي تستخلص الطاقة من النجم الخاضع للدراسة نفسه، قد ترتفع حرارتها أكثر من المطلوب. ولهذا، فإن مصفوفة الألواح الشمسية تتراجع إلى ما خلف الدرع الحراري مع كل اقتراب من الشمس، تاركة فقط قسماً صغيراً في الخارج لالتقاط الأشعة.
ولكن على هذا القرب من الشمس، نحتاج حتى إلى المزيد من الحماية. وتتمتع الألواح الشمسية بنظام تبريد قد يفاجئك ببساطته، وهو مؤلف من خزان ساخن يمنع سائل التبريد من التجمد أثناء الإقلاع، ومشعاعين يمنعان سائل التبريد من التجمد، وزعانف من الألمنيوم لزيادة سطح التبريد، ومضخات لتحريك السائل المبرد. وهو قوي بما يكفي لتبريد غرفة معيشة متوسطة الحجم، وسيحافظ على مصفوفة الألواح الشمسية والتجهيزات باردة وجاهزة للعمل في وسط حرارة الشمس.
أما سائل التبريد المستخدم في هذا النظام، فهو حوالي 3.7 ليتر من الماء الخالي من الأيونات. وعلى الرغم من وجود الكثير من سوائل التبريد الكيميائية، فإن مجال الحرارة الذي ستتعرض له المركبة الفضائية يتراوح ما بين 10 درجات مئوية و125 درجة مئوية. ولا يوجد الكثير من السوائل التي تتحمل مجالاً كهذا مثل الماء. ولمنع الماء من التبخر، يتم ضغطه بحيث تتجاوز حرارة الغليان 125 درجة مئوية.
هناك مسألة أخرى يجب التعامل معها لدى حماية أية مركبة فضائية، وهي إيجاد طريقة للتواصل معها. سيعمل المسبار الشمسي باركر لوحده في قسم كبير من الرحلة. لأن الضوء يستغرق ثمانية دقائق للوصول إلى الأرض، ما يعني أنه إذا قرر المهندسون التحكم بالمركبة الفضائية من الأرض، فسوف لن يتمكنوا من اتخاذ أي إجراء ضروري قبل فوات الأوان في الحالات الطارئة.
إذاً، فإن هذه المركبة مصممة للحفاظ على نفسها وعلى مسارها نحو الشمس بشكل آلي. توجد عدة حساسات، تقريباً بحجم الهاتف الذكي، مثبتة على جسم المركبة الفضائية على حافة ظل الدرع الحراري. وإذا التقط أي منها ضوء الشمس، يقوم بإنذار الحاسوب المركزي، وتقوم المركبة بتصحيح توضعها حتى تحافظ على الحساسات وبقية الأدوات محمية بشكل جيد. ويحدث كل هذا بدون أي تدخل بشري، وبالتالي، فقد صمم البرنامج الحاسوبي الأساسي واختبر بشكل مكثف للتأكد من إمكانية إجراء جميع التصحيحات بشكل فوري.
الانطلاق نحو الشمس
بعد الإقلاع، سيقوم المسبار الشمسي باركر بتحديد موضع الشمس، ويراصف الدرع الحراري بحيث يواجه الشمس بشكل مباشر، ومن ثم يتابع رحلته على مدى ثلاثة أشهر، متحملاً حرارة الشمس وبرودة الفضاء. وعلى مدى البعثة التي تم تخطيطها لتدوم سبع سنوات، سيدور المسبار 24 مرة حول الشمس. وعند كل اقتراب من الشمس، سيأخذ عينة من الرياح الشمسية، ويدرس هالة الشمس، ويقدم عمليات رصد قريبة بشكل عير مسبوق من حول النجم. وبفضل تقنياته الكثيرة المبتكرة، نحن متأكدون من أن هذا المسبار سيتابع عمله بشكل رائع، وبارد، طوال الوقت.