إن الماء موجود في كل مكان على كوكبنا، فإذا لم تكن أمواجه تتلاطم على شطآن البحار، فستجده ينهمر على أسطح المنازل، أو يقطر من الصنابير، أو يتجمع في بقعة من الأرض دست عليها لتوك وأنت تمشي. ولكن كيف وصلت كل هذه المياه إلى هنا؟
إنه سؤال يشغل علماء الكواكب منذ سنوات. هل تشكلت الكواكب مثل الأرض، المريخ، الزهرة وعطارد، جافة منذ ولادتها نتيجة الغبار وحرارة النظام الشمسي الداخلي، لتغمرها المياه القادمة مع المذنبات المحمّلة بالجليد لاحقاً؟ أم أن الكويكبات الأكثر جفافاً واصطدام الكويكبات هو ما يجلب الأشياء الرطبة إليها؟
يقول تيريك ديلي، عالم جيولوجيا الكواكب: "إن الماء في غاية الأهمية بالنسبة للحياة كما نعرفها، وهو ضروري أيضاً لتطور الكواكب. فالماء يغير الطريقة التي تتصرف بها الصخور، لذا فإن توقيت وصول الماء إلى الأرض يؤثر على تطورها الجيولوجي بالفعل".
ويضيف تيريك: "لقد عرفنا منذ مدة أن الكويكبات والمذنبات تحمل الماء، وأن ذلك هو التفسير المحتمل لوصول الماء إلى كوكب الأرض. ولكن تفاصيل هذه العملية تبقى مبهمة إلى حد ما".
وقد بدأت النماذج الحاسوبية تعطينا أجوبة عن هذه الأسئلة. ولكن النماذج لا يمكنها الذهاب أبعد من ذلك. ولكي تفهم حقاً كيف يعمل نظام توصيل المياه هذا، فأنت بحاجة لمشاهدته وهو يحدث. ولكن من المعروف أن ارتطام النيازك لا يمكن التنبؤ به، ولذلك قرر الباحثون أن يحدثوا ارتطاماً خاصاً بهم باستخدام مدفع ضخم في مركز أميس للأبحاث التابع لناسا Ames. وقد نُشر البحث، بقيادة ديلي، في مجلة Science Advances.
يقول بيت شولتز، الأخصائي بعلوم الأرض والمؤلف المشارك في الدراسة، في تصريح صحفي: "تقول لنا نماذج المحاكاة للصدمات أن الأجسام الصادمة يجب أن تتخلص تماماً من كافة المكونات الضعيفة بنيوياً في الكثير من سرعات الصدم الموجودة في النظام الشمسي، ما يعني أن الماء الذي تحمله يتبخر بسبب حرارة الصدمة. ولكن الطبيعة تميل أحياناً إلى مخالفة نماذجنا، وهو ما يدعونا لإجراء التجارب".
قامت ناسا ببناء حقل أميس العمودي للرمي في الستينيات لمساعدة الباحثين في برنامج أبولو على تشكيل تصور واضح حول سطح القمر. وما زال العلماء يستخدمون هذه المنشأة لصدم الأشياء ببعضها لتجريب الأمور التي عادة ما تنمذج باستخدام الحواسيب.
لمحاكاة ارتطام الكويكب الغني بالمياه بسطح كويكب آخر، قام الفريق بإطلاق حبيبات صخرية، لا تتجاوز في حجمها حجم الحبيبات المستخدمة في مسدسات اللعب، على طبقة رقيقة من بودرة حجر الخفّان، وهو مادة زجاجية تتشكل عند تبرّد الحمم البركانية بسرعة كبيرة، وقد تكون البودرة المصنوعة منه مماثلة لسطح الكويكب. قام الباحثون بتسخين البودرة لمدة ساعة ونصف بدرجة حرارة تفوق 815 درجة مئوية لإزالة أية كمية من المياه داخلها.
لإيصال المياه إلى هذه البودرة الجافة، استُخدمت حبيبات مصنوعة من صخور السيربنتين، وهو نوع معدني من الأحجار على الأرض يحمل الكثير من المياه ضمن بنيته الجزيئية، كما أنه موجود في النيازك المعروفة باسم الكوندريات الكربونية.
والآن... إلى التجربة، تم تلقيم المدفع العمودي، ووُضع تحته مباشرة طبقٌ مسطحٌ من البودرة المجففة بشدة، و... نار! انتهت التجربة في ثانية واحدة فقط.
ترتطم حبيبة السيربنتين بسطح بودرة الخفان بسرعة تزيد على 17,700 كيلومتر في الساعة، مخترقة الطبق البلاستيكي الرقيق الذي يحملها. يتطاير الفتات الصخري في كل مكان، وتبلغ قوة الاصطدام حداً يكفي لإذابة شيء من الصخور والبودرة، ما أدى إلى ظهور زجاج يحتوي على الماء.
بدلاً من أن يتبخر الماء بالكامل نتيجة الصدمة، بقي جزء منه في فتات القذيفة الذي تطاير بعدها، ولكن القسم الأكبر منه اختلط مع الزجاج المذاب. ولو كانت هذه صدمة كويكب حقيقية، فهذا يعني وصول كمية كبيرة من المياه إلى الهدف.
ترتطم حبيبة السيربنتين بسطح بودرة الخفان بسرعة تزيد على 17,700 كيلومتر في الساعة، مخترقة الطبق البلاستيكي الرقيق الذي يحملها. يتطاير الفتات الصخري في كل مكان، وتبلغ قوة الاصطدام حداً يكفي لإذابة شيء من الصخور والبودرة، ما أدى إلى ظهور زجاج يحتوي على الماء.
بدلاً من أن يتبخر الماء بالكامل نتيجة الصدمة، بقي جزء منه في فتات القذيفة الذي تطاير بعدها، ولكن القسم الأكبر منه اختلط مع الزجاج المذاب. ولو كانت هذه صدمة كويكب حقيقية، فهذا يعني وصول كمية كبيرة من المياه إلى الهدف.
تظهر هذه التجارب فقط كيفية اصطدام كويكب بكويكب آخر، لا اصطدامه بهدف أكبر مثل الأرض أو القمر. تتطلب محاكاة هذه الصدمات تجهيزات أقوى بكثير، غير أن هذه العملية تعطينا فكرة جيدة عما يحدث على الأجسام الأكبر.
يقول ديلي: "إن التجارب التي نجريها في المختبر صغيرة القياس مقارنة بالكويكبات والكواكب الهائلة. ولكننا نعتمد على ما نراه في المختبر لنحاول فهم ما يحدث بشكل جيد، ونأخذ بعين الاعتبار معلوماتنا عن الاصطدامات الكبيرة، ونستخدمها في تفسير نتائج التجارب".
على سبيل المثال، يعرف أخصائيو علوم الأرض أن سرعات الصدمات على القمر أعلى بكثير من السرعات في المختبر. كما يعرفون أيضاً أن الصدمات التي تحدث بسرعات أعلى تنتج المزيد من المواد الذائبة. وإذا كانت المواد الذائبة إثر الصدمة على القمر تحتجز الماء كما يحدث في التجارب، فإن الآليات التجريبية ستبقى صحيحة على قياسات أكبر.
يرغب ديلي وزملاؤه بإلقاء نظرة عن كثب على الكويكبات في النظام الشمسي التي تحمل دلالات على سطحها لوجود الماء، لمعرفة ما إذا كانت نسبة المياه المحتواة فيها تطابق نتائجهم التجريبية. يمكن لهذا أن يساعد الباحثين على فهم بعض الحركيات الأساسية للنظام الشمسي حالياً، ويقدم لنا بعض المعلومات حول كيفية تشكل النظام الشمسي والكواكب. يقول ديلي: "إن مسألة أصل المياه ومن أين أتت وكيف وصلت إلى هنا تعتبر أساسية لفهم كيفية تشكل وتطور الأرض، وعلى نطاق أوسع، كيف أصبحت على شكلها الحالي".