قبل نصف مليار سنة تقريباً، تَسبَّبَ حدث غامض في إحدى أهم التغيرات التي عرفتها الحياة على الأرض. دون سابق إنذار، ارتفع عدد الكائنات الحية على الكوكب بوتيرة سريعة، حيث زاد التنوع البيولوجي للحيوانات اللافقارية إلى مستوى مماثل لما نراه حولنا اليوم. التفسير الشائع لهذا الحدث، الذي يُطلَق عليه اسم «التنوع البيولوجي الأوردوفيشي الكبير»، هو انخفاض درجة الحرارة على الأرض ودخولها في عصر جليدي.
لكن ما الذي أدى إلى انخفاض درجات الحرارة؟ في بحث جديد، نُشِرَ في دورية «ساينس أدفانسيس»، أظهر الباحثون أن بداية تغير درجات الحرارة تزامن مع أكبر تَفكُّك كويكبي موثق، في حزام الكويكبات، خلال الملياري سنة الماضية، ونتج هذا التفكك عن الاصطدام بكويكب آخر أو بأحد المذنبات. وإلى اليوم يُعدُّ هذا التفكك البالغ عرضه 150 كم، والواقع في منطقة بين المشتري والمريخ، مصدر ما يقرب من ثلث النيازك التي تسقط على الأرض.
اعتمد البحث على دراسات مُفصَّلة لرواسب في قاع البحر، اكتُشِفَت في منطقة كينيكولي جنوب السويد، وفي نهر لينا بالقرب من سانت بطرسبرج في روسيا، التي تعود إلى العصر الأوردوفيشي، الذي يتراوح بين 485 و443 مليون سنة مضت. في منطقة كينيكولي، اكتشف الباحثون ما يزيد على 130 صخرة من «النيازك الأحفورية» التي سقطت على الأرض في الماضي السحيق. ترسَّبت هذه النيازك في قاع البحر، وحافظت عليها الطبيعة، مثلما حافظت على أحافير الحيوانات.
جميع هذه النيازك الأحفورية، التي يبلغ قطرها 20 سم، لها التركيب نفسه، ما عدا نيزك واحد؛ مما يعني أن مصدرها واحد. وفي الواقع تتكون هذه النيازك من تركيبة المواد نفسها التي يتكون منها الكويكب الضخم الذي تفكك عن حزام الكويكبات. النيزك الآخر، الذي ليس له التركيب ذاته، ربما يكون مصدره الجسم الذي اصطدم بالكويكب الكبير.
يعلم الباحثون أن التفكك الكويكبي وقع قبل 466 مليون سنة، ويمكن التأريخ لهذا الحدث بالعودة إلى النظائر -وهي أشكال من العناصر الكيميائية، تختلف في الكتلة الذرية بسبب اختلاف عدد النيوترونات في النواة- التي تحتوي عليها النيازك الساقطة حديثاً، ومصدرها الكويكبات التي تفككت عن حزام الكويكبات خلال العصر الأردوفيسي. يعني هذا أن المواد التي رصدت من النيازك الأحفورية انتقلت إلى الأرض مباشرة بعد حدوث التفكك. وبالنظر إلى العدد الكبير من النيازك التي اكتشفت في قاع البحر، أشار الباحثون إلى أن انهمار النيازك على الأرض حينها وقع بوتيرة أكبر مما هي عليه في الوقت الحالي.
لكن السؤال المطروح هو: كيف يمكن التأكد من أن الاصطدام -الذي وقع على مستوى حزام الكويكبات- أدى إلى تحرير كميات هائلة من الغبار الذي أسهم في خفض درجة حرارة الأرض؟ وللإجابة عن هذا السؤال، درس الباحثون توزيع جزيئات دقيقة من الغبار في الطبقات الرسوبية. ومن خلال الكشف عن تركيز الهيليوم ونسب مواد أخرى داخل هذه الرواسب، يمكن للباحثين تقرير ما إذا كان أصل هذا الغبار من خارج كوكب الأرض أم من داخله؛ لأن وجود هذه العناصر يعني أن الغبار تعرَّض لموجات متتالية من الرياح الشمسية، وهو في طريقه إلى الأرض.
وتُظهر النتائج بما لا يدع مجالاً للشك أن كميات هائلة من جزيئات الغبار الدقيقة وصلت إلى الأرض، بعد وقت قصير من حدوث التفكك على مستوى حزام الكويكبات. ويبين السجل الجيولوجي أيضاً أنه بعد وصول الغبار بفترة وجيزة انخفض مستوى سطح البحر في جميع أنحاء العالم، معلناً بداية العصر الجليدي، وذلك راجع لانتقال مياه البحر إلى المناطق القطبية، حيث تشكلت طبقات الجليد الكبيرة.
كانت النتائج غير متوقعة؛ إذ لجأ الباحثون، خلال السنوات الخمسة والعشرين الماضية، إلى فرضيات مختلفة لتفسير ما حدث خلال هذه الفترة. كان العلماء يشكُّون في أن التنوع البيولوجي مرتبط بطريقة ما بالتفكك الكويكبي، واعتقدوا أيضاً أن وابل الكويكبات الصغيرة - التي وصلت إلى الأرض والناتجة عن التفكك - لها علاقة بالتغيرات التي عمَّت كوكب الأرض. لكن لم تتضح الصورة سوى بعد حصول الباحثين على نتائج قياسات الهيليوم، التي بَيَّنَت دور الغبار في التغيرات التي شهدها كوكب الأرض.
دروس من أبحاث المناخ
آثار الاحترار العالمي لا تخفى على أحد، فبسبب انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، ارتفعت درجات الحرارة في المناطق القطبية. ووفقاً للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، فإننا نقترب من وضع يشبه الظروف التي كانت سائدة قبل التفكك الكوكبي قبل 466 مليون عام. الاستمرار في هذا الطريق له تبعات جمة على التنوع البيولوجي.
وناقش الباحثون خلال العقد الماضي طرقاً مختلفة، يمكن عن طريقها خفض درجة حرارة الأرض، وتفادي حدوث كارثة مناخية مُدمِّرة. يتمثل أحد الحلول المقترحة في وضع كويكبات، في صورة أقمار صناعية، في مدارات حول الأرض؛ لتُحرِّر باستمرار جزيئات من الغبار، التي تعمل على صد أشعة الشمس بشكل جزئي.
وتُظهر النتائج للمرة الأولى أن مثل هذا الغبار قد أسهم في تبريد الأرض في أحيان كثيرة؛ مما يعطي أملاً في إمكانية الاعتماد على هذا الحل وتطبيقه مستقبلاً، وتُقدِّم الدراسة أيضاً تحليلاً مفصلاً، يمكن استخدامه لإنشاء نماذج محاكاة حاسوبية لهذه الأحداث وتقييمها.
وفي المستقبل المنظور لا توجد وسيلة أخرى لمواجهة التغير المناخي سوى تقليل انبعاثات الكربون. في النهاية، هذه هي الوسيلة الوحيدة للحفاظ على التنوع البيولوجي الذي حدث منذ ملايين السنين.