إذا نجحت فكرة القوة الفضائية التي اقترحها الرئيس دونالد ترامب، فلن تكون أول قوة عسكرية تحاول اقتحام الفضاء على الإطلاق. في الواقع، فإن فكرة إنشاء وجود عسكري في الفضاء قديمة بقدم عصر الفضاء نفسه، وقد كادت الولايات المتحدة تؤسس قوتها الفضائية الخاصة في الستينيات.
ولكن توجد بعض الاختلافات. أولاً، لا أحد يعرف ما إذا كانت هذه القوة الفضائية تتطلب إرسال أفراد عسكريين في نهاية المطاف إلى الفضاء، أو أنها ببساطة ستعتمد على العسكريين على الأرض، مع الكثير من التقنيات الروبوتية في السماء. يقول جوناثان ماكدويل، فيزيائي فضائي في هارفارد، ومؤرخ للتحليق الفضائي، في رسالة بالبريد الإلكتروني: "أعتقد أن القوة الفضائية تمثل مستقبلاً مهنياً جيداً لمشغلي الأقمار الاصطناعية في وزارة الدفاع. إنها لا تتمحور حول التحليق الفضائي على الإطلاق".
لنوضح بعض الأمور: توجد أقمار اصطناعية في الفضاء تتبع لوزارة الدفاع. وقد حلقت المحطة الفضائية غير المأهولة بوينج 37 بي، وهي مكوك فضائي غير مأهول، في سلسلة من البعثات فائقة السرية في هذا العقد. تقوم القيادة الاستراتيجية بتتبع الأجسام في الفضاء، كما أن سلاح الجو أوجد نظام "سور فضائي" لتتبع الأقمار الاصطناعية والحطام الفضائي، ويتوقع أن يبدأ بالعمل العام المقبل. علاوة على هذا، فقد بدأ الكثير من رواد الفضاء حياتهم المهنية ضمن المؤسسات العسكرية، ولهذا يمكن أن نقول أنه يوجد حضور عسكري بارز في الفضاء حالياً.
من ناحية أخرى، لا يوجد رواد فضاء عسكريون أو مركبات فضائية مخصصة للأغراض العسكرية. وليس من الواضح متى ستتعامل مخططات سلاح الجو مع هذه المسألة، ولكن الوضع لم يكن كذلك على الدوام. ففي الستينيات، كان سلاح الجو الأميركي يعمل بكل جهد لضمان مكانته في الفضاء. ومن الناحية التقنية، فقد أطلق نموذجاً أولياً لمحطة فضائية إلى الفضاء، ولكن لم يتم إرسال أي أفراد إلى هناك.
أجريت الكثير من المحاولات لبناء مركبات عسكرية جاهزة فورياً للانطلاق إلى الفضاء في الخمسينيات والستينيات. وقد عمل سلاح الجو بالاشتراك مع مختبرات بيل في الأربعينيات لتصميم الطائرة التجريبية إكس 1، والتي تعمل بمحركات صاروخية. وقد أصبحت الرحلة الشهيرة لتشاك يايجر على متن إكس 1 في العام 1947 أول رحلة تخرق جدار الصوت. ولكن يايجر كان على ارتفاع 12.8 كيلومتر فقط، أي أقل بكثير من الارتفاع الذي لطالما اعتبره سلاح الجو يمثل حدود الفضاء الخارجي، والذي يبلغ 80.46 كيلومتر (من الجدير أن ناسا تعتبر أن حدود الفضاء الخارجي تقع على ارتفاع 100 كيلومتر).
أثارت رحلة إكس 1 لمختبرات بيل الاهتمام بالطيران فوق سرعة الصوت، وفي 1948، وصل يايجر إلى ارتفاع 21 كيلومتر تقريباً، وهي أعلى وأسرع رحلة حتى تاريخه، ووصلت إلى سرعة 1540 كيلومتر في الساعة. كانت إكس 1 أيضاً أول مركبة فضائية في برنامج طائرات إكس، وهو مجموعة متفرقة من الطائرات التجريبية التي تم اختبارها وتشغيلها، بشكل أو بآخر، من قبل الهيئة الاستشارية الوطنية للطيران، ووريثتها ناسا، وسلاح الجو. كانت جميع طائرات إكس اللاحقة تعتمد على تقنيات يمكن استخدامها في استكشاف الفضاء أو الرحلات عالية الارتفاع. ومن الجدير بالملاحظة أن إكس 13 كانت تمثل محاولة لإيجاد تقنية الإقلاع والهبوط العمودي، والتي تشبه إلى حد ما تقنيات الصواريخ الصالحة للاستخدام المتكرر في شركات الفضاء الخاصة الموجودة حالياً، كماً أن طائرات إكس 8 و 11 و 12 كانت عبارة عن صواريخ، بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
ومن ثم، أتت الطائرة إكس 15
إلى الأعالي
كانت أغلب طائرات إكس في البدايات تمثل طموحات كبيرة من حيث الارتفاع، ولكن إكس 15 صممت خصيصاً لتكون طائرة فضائية عسكرية. قامت شركة نورث أميريكان أفييشن بتصميم الطائرة بالتعاون مع ناسا وسلاح الجو الأميركي، وحلقت الطائرة لأول مرة في 1959، ولكن الرحلات بدأت تزيد ارتفاعاً أكثر من ذي قبل في 1962. وكان معظم المشاركين في بعثات إكس 15 من المشاركين أيضاً في برنامج إكس 20 داينا-سور، والذي كان عبارة عن طائرة مثبتة على صاروخ ناقل تقليدي.
أجريت الرحلة رقم 62 للطائرة إكس 15 في 1962، ووصلت إلى ارتفاع 96 كيلومتر تقريباً، أي أخفض بقليل من حد الفضاء وفقاً لتعريف ناسا (لا تعريف سلاح الجو). وتجاوزت رحلتان أخريان، رقم 77 و 87، ارتفاع 80.4 كيلومتر، ولكن الرحلتين 90 و 91 وصلتا إلى ارتفاع 105.8 كيلومتر و 107.8 كيلومتر، على الترتيب، في 1963. وصل جوزيف والكر، الطيار في كلتا الرحلتين، إلى الفضاء خلال رحلاته تحت المدارية التي دامت لاثنتي عشرة دقيقة، وتجاوزت سرعته 5970 كيلومتر في الساعة. كما كان أيضاً، من الناحية التقنية، أول أميركي يذهب إلى الفضاء مرتين، وتبعه جاس جريسوم ليصبح أول رائد فضاء يحقق هذا في 1965. وفي 2005، تلقى والكر واثنان آخران من طياري إكس 15، بيل دانا وجاك ماكاي، شارة الأجنحة التي يحملها رواد الفضاء من ناسا.
ولكن، وفيما كانت إكس 15 قيد التطوير، كان سلاح الجو يرقب الفضاء خلسة لهدف آخر: جمع المعلومات الاستخبارية.
جواسيس في الفضاء
في 1960، أطلق سلاح الجو –بالأحرى، حاول أن يطلق- القمر الاصطناعي ساموس إي 5 إلى المدار. ولم يكن الحظ السعيد، أو شبه السعيد، حليف هذه المحاولات. حيث فُقدت السيطرة على أول رحلة، فيما وصلت الثانية إلى الفضاء في 1961، وعانت رحلتان أخريان من إخفاقات إضافية. ومن أشهر الحوادث انفجار بعثة ساموس 3 على منصة الإقلاع، كما يظهر في هذا التسجيل. أما البعثات من 5 حتى 11 فقد لقيت نجاحاً محدوداً، بمعنى أنها تمكنت من الوصول إلى الفضاء، غير أنها لم تحقق أهدافها الفعلية.
يقول ماكدويل: "يمكن أن نعتبر القمر الاصطناعي التجسسي ساموس إي 5 في 1961 بمثابة أول برنامج رواد فضاء عسكري أميركي، وقد كان مزوداً بقمرة ذات ضغط متحكم به، وكان من الممكن أن يعود إلى الأرض مع كاميرا، لو قدر لبعثة واحدة أن تحقق نجاحاً تاما. كان استخدام هذا التصميم لقمر اصطناعي فكرة غبية، ما دفع الكثيرين منا للاعتقاد بأنه كان محاولة للالتفاف على ناسا وبرنامجها ميركوري بإطلاق برنامج مكافئ له. غير أن هذه المحاولة فشلت بسبب إخفاق جميع الرحلات للقمر الاصطناعي التجسسي".
غير أن سلاح الجو كان يستعد أيضاً لمشروع آخر هذه المرة، وهو المختبر المداري المأهول (اختصاراً: مول)، والذي كان سيصبح أول محطة فضائية. كان البرنامج يتشكل بالتوازي مع برنامج جيميناي لناسا، وكان سيعتمد على كبسولة جيميناي معدلة لنقل رواد الفضاء من وإلى مول. أما مول نفسه فكان يشبه جسم صاروخ مجوف مع مركبة جيميناي مثبتة على مقدمته. لم يعرف العامة بالكثير من التفاصيل عن المشروع، سوى أنه محطة فضائية عسكرية. ولكن في الواقع، كانت المحطة تجسسية، وتهدف إلى مراقبة الدول داخل الستار الحديدي عن بعد في حقبة الحرب الباردة.
اختار سلاح الجو أفراد الطاقم لكل من المراحل الثلاثة المقترحة لبرنامج مول، حيث ستمضي طواقم مؤلفة من شخصين فترة تصل إلى 40 يوماً لكل منها في المدار، وهي تلتقط الصور الاستطلاعية وتراقب الفضاء قرب الأرض. ومن ضمن هؤلاء روبرت هنري لورنس الابن، والذي كان سيصبح أول رائد فضاء من أصول أفريقية لو صعد إلى الفضاء، غير أنه لاقى حتفه في حادث في طائرة لوكهيد إف 104 ستارفايتر في 1967، ولم تكن الطائرة فضائية، على الرغم من اسمها، بل مجرد مقاتلة عادية.
يقول مايكل نيوفيلد من المتحف الوطني للجو والفضاء أن سلاح الجو كان "مهيمناً" على مول، ولكن البرنامج كان يتضمن أيضاً أفراداً من جهات عسكرية أخرى، مثل الجيش والبحرية. وفي 1966، أرسلت رحلة اختبارية غير مأهولة. وعلى امتداد بضعة سنوات، كانت تدور محطة فضائية حول الأرض، ولكن بدون طاقم. وبعد أن أمضت فترة في المدار، بدأت تتهاوى ببطء نحو الغلاف الجوي.
وبعد بضعة سنوات، أُلغي البرنامج تماماً. يقول نيوفيلد: "كان مول برنامجاً للاستطلاع بالأقمار الاصطناعية لوزارة الدفاع، وقامت إدارة الرئيس نيكسون بإيقافه بسبب تزايد النفقات، والتأخيرات الكثيرة في الإقلاع، إضافة إلى فكرة تقول بأن الأقمار الاصطناعية الروبوتية قادرة على تأدية نفس العمل تقريباً".
انتقل سبعة رواد فضاء من مول إلى ناسا بعد انتهاء البعثة، وحلق عدد منهم في عدة بعثات بالمكوك الفضائي. حيث قام ريتشارد ترولي، أحد أوائل المنتسبين إلى مول، بالتحليق في النموذج الاختباري الثاني للمكوك الفضائي إنتربرايز، ولم يصل المكوك إلى الفضاء، حيث أن هدف البعثة كان اختبار إمكانيات الهبوط للمركبة قبل اطلاقها إلى الفضاء بشكل فعلي. وفي وقت لاحق، حلق على متن البعثتين إس تي إس 2 وإس تي إس 8 في المكوك الفضائي كولومبيا، وانتهى به المطاف مديراً لناسا في إدارة الرئيس جورج بوش الابن. أما روبرت كريبين، والذي كان في المجموعة الثانية من رواد الفضاء في مول، فقد حلق في أولى بعثات المكوك الفضائي في 1981. أما من تبقى من رواد مول: كارول بوبكو، تشارلز جوردن فوليرتون، هنري هارتسفيلد، روبرت أوفرماير، دونالد بيترسون. أما ألبرت كروز وجيمس أبراهامسون فقد انضموا إلى ناسا في أقسام أخرى.
يقول ماكدويل أن الجهد العسكري الجاد الأخير كان يتضمن مجموعة من "مهندسي الرحلات الفضائية المأهولة"، وهم أفراد خاضعون لتدريب عسكري وتتلخص مهمتهم بالتعامل مع الحمولات فائقة السرية على متن رحلات المكوك الفضائي، ويكمل ماكدويل قائلاً: "دربوا 32 شخصاً، ولكن لم يحلق منهم إلا اثنان". حلق جاري بايتون في البعثة إس تي إس 51 سي، وحلق ويليام بايلز على إس تي إس 51 جي، وذلك في 1985. ومن الصدفة أن طيار إس تي إس 51 جي كان كارول بوبكو، أحد رواد الفضاء في مول والذين انتقلوا إلى ناسا.
قام برنامج المكوك الفضائي بنقل بعض الأفراد الآخرين من وزارة الدفاع، ولكن لم يكن أي منهم منتسباً لبرنامج رسمي. ودارت بعض المداولات في الثمانينيات حول زيادة حضور سلاح الجو في الفضاء، وبذل سلاح الجو بعض الجهود في هذا الاتجاه، لدرجة تجهيز مركز تحكم للبعثات في سانيفيل، كاليفورنيا. يقول ماكدويل: "كان المركز سيتحول أيضاً إلى مقر قيادة لرواد الفضاء العسكريين عندما نوقش الموضوع في حقبة المكوك الفضائي. ويقع على مسافة قريبة نسبياً من مصنع لوكهيد الذي بنى الأقمار الاصطناعية التجسسية".
البعثات المستقبلية
غير أن القوة الفضائية التي اقترحها ترامب تبدو اقتراحاً مختلفاً عن أي من هذه البرامج وغيرها من المشاريع العسكرية السابقة في الفضاء، ومن المحتمل أن تضع على المحك أيضاً معاهدة الفضاء في 1967، والتي تضع الأطر والقيود على بعض النشاطات العسكرية في الفضاء. كما يمكن أن يستحوذ هذا الكيان الجديد على الكثير من المهام التي يؤديها سلاح الجو، وهو ما لا يقتصر على الأقمار الاصطناعية التجسسية أو غيرها من النشاطات السرية وحسب، بل يتضمن أيضاً نوعية أخرى من المهام مثل تتبع الخردة الفضائية. قد لا يتطلب هذا المشروع وجود الكثير من الأفراد فوق الأرض كما قد يوحي الموضوع، وعلى كل حال، فلا يوجد الكثير من الخطط الواضحة أو التفاصيل حول الماهية الفعلية لهذه القوة الفضائية.
يقول نيوفيلد: "من الخطأ أن نربط بين فكرة القوة الفضائية ورواد الفضاء العسكريين. وفي الوقع، فقد يقتصر المشروع من الناحية العملية على نقل جميع الموارد الفضائية لسلاح الجو إلى إدارة مستقلة، مثل مقرات التحكم الأرضية والأقمار الاصطناعية في المدار وعمليات الأقمار الاصطناعية والإطلاق، مثل وحدة سبيس وينج 45 في كيب كانافرال. سيؤدي هذا إلى بلبلة عارمة في سلاح الجو. كما قد يتضمن نقل بعض العناصر من البحرية والجيش. ومن غير المعروف ما هو دور مكتب الاستطلاع الوطني، وما إذا كانت هذه الوكالة الفضائية العسكرية ستدار بشكل مشترك من قبل وزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية".
وبالتالي، حتى لو لم يكن هناك رواد فضاء تابعون للقوة الفضائية، فما زال الارتباك يسود مسار تأسيسها، إضافة إلى الكثير من الأسئلة التي تنتظر الإجابة. قد نرى، في وقت لاحق، خططاً أكثر وضوحاً لماهية هذا الكيان الجديد، ولكن تاريخ الوجود العسكري في الفضاء قديم بقدم برامج التحليق الفضائي لناسا، وإذا ما أُنشئت هذه القوة الفضائية، فسوف ترتكز على الكثير من السوابق التاريخية.