عندما تنطلق مهمة أرتميس 1 التابعة لوكالة ناسا أواخر هذا الشهر إلى القمر، سيكون على متن كبسولة أوريون راكبتان مميزتان: زوهار وهيلغا.
الراكبتان عبارة عن جذوع دمى بشرية في الواقع، ومستلهمتان من أدواتٍ تُستخدم للتدريب في المشافي ومصممة لمحاكاة عظام الإنسان والأنسجة الرخوة والأعضاء الداخلية للإناث البالغة، وقد تم إنتاجهما بالتعاون بين إحدى وكالات الفضاء في الشرق الأوسط ومركز الفضاء الألماني، وهي مزودة بأجهزة استشعار يمكنها قياس التعرض للإشعاع داخل الجسم. سوف ترتدي زوهار تحديداً سترة واقية من الإشعاع مصممة لحماية رواد الفضاء الحقيقيين المقرر مشاركتهم في بعثات أرتميس المستقبلية، بمن فيهم أولئك النساء اللواتي سيذهبن إلى القمر.
كانت آخر مرة وطأت فيها أقدام البشر سطح القمر أو سافروا خارج المدار الأرضي المنخفض خلال مهمة أبولو عام 1972. في ذلك الوقت، لم يكن مسموحاً للنساء بالانتساب إلى فريق رواد الفضاء الأميركي، ولكن ذلك تغير عام 1978 عندما تم اختيار أولى المرشحات الأميركيات لريادة الفضاء، وكان من بينهن شابة تُدعى سالي رايد.
اقرأ أيضاً: جهود عربية في مجال الفضاء: من أول رائد فضاء عربي سعودي إلى مسبار الأمل والكوكب الأحمر
لكن التنوع بين رواد فضاء ناسا اليوم أصبح أكبر بكثير. إلا أن هذا التنوع لا ينعكس في البيانات التي تتناول بروتوكولات السلامة الخاصة برواد الفضاء بسبب هيمنة الذكور لعقود من الزمن على هذا المجال. لذلك تجري الوكالة والمتعاونون معها تجارب جديدة لفهم كيفية استجابة الأجسام البشرية المختلفة لبيئة الفضاء القاسية ولتمكين جميع رواد الفضاء من القيام بعملهم بأمان على أفضل وجه.
تقول كبيرة المسؤولين العلميين في معهد الأبحاث الانتقالية لصحة الفضاء، والذي يتلقى الدعم من برنامج ناسا للبحوث البشرية وتديره كلية بايلور للطب، جينيفر فوغارتي: «نحن هنا بفضل رواد الفضاء العمالقة الذين سبقونا، وقد أحرزنا الكثير من التقدم. ولكن لا يزال هناك الكثير الذي يتعين القيام به لفهم الفروق الدقيقة البيولوجية بين رواد الفضاء، وذلك بهدف تصميم أدوات السفر إلى الفضاء ونظم الرعاية الصحية لرواد الفضاء بطريقة تمكّن جسم الإنسان من أداء المهام المتوقعة منه وتقليل احتمال حدوث أي تعارض معه».
الأضرار الجسدية في ظروف انعدام الجاذبية
للبحث عن أنماط، قام باحثون، مثل فوغارتي، بجمع بيانات حول كيفية تأثير الاختلافات بين الجنسين على صحة الرواد في الفضاء. لكن، وحتى الآن، كانت الأبحاث حول كيفية استجابة أجساد النساء للبيئة القاسية للفضاء محدودة جداً، حيث سافر حتى الآن أكثر من 600 شخص إلى الفضاء، من بينهم أقل من 100 امرأة. في هذا الصدد، يمكن أن تساعد الأدوات الاختبارية، مثل زوهار وهيلغا، في جمع البيانات بطريقة لا تعتمد على الاتجاهات والبيانات التاريخية.
من الناحية العلمية، من الصعب استقراء اتجاهات موثوقة للاختلافات بين الجنسين أو الرعاية الصحية المرتبطة بالجنس اعتماداً على هذه الأرقام، لأن بعض الخصائص يمكن أن تكون ناتجة ببساطة عن الاختلافات الفردية. على سبيل المثال، أصيبت إحدى رائدات الفضاء بجلطة دموية في أثناء تواجدها في محطة الفضاء الدولية عام 2020، ما دفع الباحثين إلى إجراء تحقيق حول ما إذا كان استخدام موانع الحمل الهرمونية، والتي كانت تستخدمها رائدة الفضاء للتحكم في الدورة الشهرية، تزيد من خطر حدوث الجلطات الدموية في أثناء الرحلات الفضائية. وقد خلصت دراسة أجريت على 38 رائدة فضاء، نُشرت في وقت لاحق من ذلك العام إلى عدم صحة هذا الافتراض. ولكن نظراً لصغر حجم العينة بالإضافة لندرة الجلطات الدموية المرتبطة بوسائل منع الحمل الهرمونية، يبقى هذا السؤال مطروحاً للبحث.
تقول فوغارتي: «لقد أظهرت النساء مرونة أكثر في بعض النواحي في أثناء رحلات الفضاء». على سبيل المثال، يبدو أن رؤية رواد الفضاء الذكور في حالة انعدام الوزن تتأثر بالتورم حول العصب البصري (الوذمة الحليمية البصرية) أكثر مقارنة برائدات الفضاء. ولكن وفقاً لدراسة أجريت عام 2014، عانت رائدات الفضاء أكثر من الناحية الإحصائية، من عدم التحمل الانتصابي (عدم القدرة على الوقوف دون إغماء لفترة طويلة) إبان عودتهن إلى الأرض.
التسمم الإشعاعي في الفضاء
إلى جانب الظروف قصيرة المدى التي تتعرض لها الأجسام والتغيرات التي تطرأ عليها، يركز جزء كبير من الاهتمام بصحة الإنسان في الفضاء على التعرض للإشعاع الكوني المنبعث من النجوم والانفجارات المجرية. تقول فوغارتي إن معظم البيانات التي نمتلكها حالياً أتت من الأبحاث المخبرية على القوارض أو من الدراسات التي تمت على الناجين من القنبلة الذرية، وتظهر هذه البيانات نمطاً يشير إلى أن الإناث الناجيات أكثر عرضة للإصابة بسرطان الرئة من الذكور.
يبدو أن النساء يتعرضن لآثار جانبية أكثر جراء الإشعاع الكوني الضار مقارنة بالرجال، لذلك قامت ناسا مؤخراً بتحديث معاييرها لمستويات التعرض المقبولة لتكون متسقة، محددة بذلك الجرعة المسموح بالتعرض لها لجميع رواد الفضاء بالجرعة المحددة سابقاً لامرأة تبلغ من العمر 35 عاماً.
اقرأ أيضاً: قد يكون الفضاء المكان المثالي لإنماء الأعضاء البشرية
ومع ذلك، فإن هناك اختلافاً بين الأشعة الكونية المجرية والإشعاع الناجم عن السلاح النووي. على سبيل المثال، يكون التعرض في الحوادث النووية أو الأعمال الحربية ثنائي الأبعاد، أي قد تتعرض بعض الأعضاء للإشعاع أكثر من غيرها. بينما يمكن أن يأتي التعرض للإشعاع من جميع الاتجاهات في الفضاء كما تقول فوغارتي. وفي هذا الصدد، تشير بعض التقديرات إلى أن معدل التعرض للإشعاع على القمر أعلى بنحو 2.6 مرة من معدل التعرض للإشعاع على متن محطة الفضاء الدولية. ومع ذلك، يمكن أن يتعرض رواد الفضاء خلال أسبوع من وجودهم على متن محطة الفضاء الدولية لنفس كمية الإشعاع التي يتعرض لها المرء خلال عام من وجوده على الأرض.
نظراً لأن الإشعاع في الفضاء يأتي من جميع الاتجاهات، فإن تصميم حاجز مادي مثل بدلة فضاء أو سترة واقية يمكن أن يكون صعباً. لذلك من المهم فهم كيفية تأثر جميع الأعضاء البشرية بالتعرض للإشعاع، سواء كانت أعضاء تناسلية خاصة بالجنس أم غيرها.
وهنا يأتي دور هيلغا وزوهار. تُعد هذه الدمى البشرية جزءاً من "تجربة ماتروشكا أستروراد للإشعاع" (Matroshka AstroRad Radiation Experiment)، (MARE) اختصاراً. توجد داخل هذه الدمى شبكة مكونة من 10 آلاف مستشعر سلبي و34 كاشفاً نشطاً للإشعاع ستجمع بيانات تتيح للباحثين معرفة أجزاء الجسم الأكثر تعرضاً للموجات الكهرومغناطيسية في أثناء رحلات الفضاء. قد تتم حماية بعض الأعضاء بواسطة طبقات الأنسجة الرخوة فوقها، بينما قد لا تتم حماية بعضها الآخر، ما يساعد المهندسين على بناء أنظمة أكثر استهدافاً لحماية مناطق الجسم الأكثر عرضةً لخطر الإشعاع الضار.
اقرأ أيضاً: في الفضاء الخارجي: 5 مخاطر صحية يتعرض لها رواد الفضاء
قالت رئيسة الفريق العلمي لتجربة "ماتروشكا أستروراد" للإشعاع في مركز جونسون للفضاء التابع لناسا، رامونا جازا، في مؤتمر صحفي عبر الهاتف هذا الأسبوع: «بالإضافة إلى الاختلاف بين الرجل والمرأة من حيث التأثيرات البيولوجية، سنفهم كيف يؤثر الإشعاع على أعضاء الجسم المختلفة، مثل المخ والرحم».
لن يكون اختبار هاتين الدميتين الاختبار الوحيد المصمم لدراسة تأثيرات الإشعاع. حيث ستكون هناك مجموعة من الكائنات الحية أيضاً، مثل الخميرة والفطريات والطحالب وبذور النباتات، على متن البعثة. ضمن مشروع "بيوسنتينيل" (BioSentinel) التابع لناسا، ستطلق كبسولة أوريون قمراً صناعياً مصغراً (كيوبسات) في مدار حول القمر حاملاً ضمنه خلايا الخميرة لاختبار كيفية بقاء الكائنات الحية في بيئة الفضاء السحيق.
في المجمل، ستطلق مهمة أرتميس 10 أقمار كيوبسات؛ حيث ستدرس بقية الأقمار جوانب البيئة القمرية المهمة لسلامة الرحلات المأهولة المستقبلية إلى القمر. تحمل هذه الأقمار أدوات لدراسة طقس الفضاء وعواصف الإشعاع الشمسي وستقيس مخزونات الجليد المائي على سطح القمر، بالإضافة إلى مركبة هبوط صغيرة من وكالة استكشاف الفضاء اليابانية.
اقرأ أيضاً: لماذا لا يعيش أحد على القمر حتى الآن؟
لن تكون هيلغا وزوهار وحيدتين على متن مهمة أرتميس 1 أيضاً. فبالإضافة إلى لعبة الخروف "شين"، ستنضم إليهما دمية تحاكي ذكراً بشرياً مزودة بأجهزة استشعار لقياس جوانب مختلفة من بيئة القمر خلال الرحلة، بما في ذلك التعرض للإشعاع. في حين لن ترتدي هيلغا أو زوهار بدلات فضائية، سترتدي دمية مونيكين كامبوس-الدمية الذكر- الجيل الأول من نظام النجاة الخاص بطاقم أوريون، والذي سيرتديه رواد فضاء مهمة أرتميس الحقيقيون عندما يسافرون إلى القمر لاحقاً.