نعلم بالفعل أن الفضاء الخارجي ليس وسطاً رفيقاً بالبشر، إذ إنه لا يحتوي على الهواء القابل للتنفس أو الماء الصالح للشرب إلّا إذا اصطحب البشر هذه العناصر، علاوة على أنه بارد للغاية أو حار للغاية حسب المكان الذي يذهبون إليه. لكن تأثيرات الفضاء في أجسام البشر تتجاوز بكثير هذه المشكلات البديهية التي تهدد الحياة.
اكتشف العلماء خلال عقود من استكشاف الفضاء أن عظام رواد الفضاء تضعف وعضلاتهم تتدهور بسبب انعدام الوزن، بالإضافة إلى أن مخاطر إصابتهم بالسرطان تزداد بسبب الإشعاع الفضائي وتتعرض أجهزتهم المناعية إلى الخطر بسبب الإجهاد الناجم عن رحلات الفضاء. تزداد آثار هذه المشكلات سوءاً كلما طالت مدة بقاء البشر في الفضاء، وهي مشكلة جدية يجب أخذها في الاعتبار عند التخطيط للرحلات إلى وجهات بعيدة مثل كوكب المريخ.
اقرأ أيضاً: ما هي الأنفاق الهوائية؟ وما النقلة التي ستُحدثها في رحلات الفضاء؟
رحلات الفضاء الطويلة قد تؤدي إلى تلف دائم في كلى البشر
كشف بحث أجراه أطباء الكلى في كلية لندن الجامعية (يو سي إل) نُشِر مؤخراً في مجلة نيتشر(Nature)، مشكلة جديدة يجب على البشر مواجهتها في أثناء مغامراتهم خارج الأرض. يبيّن البحث الجديد أن رحلات الفضاء الطويلة المدى قد تؤدي إلى تلف دائم في كلى البشر، وهذا التلف شديد للغاية لدرجة أن رواد الفضاء الذين سيسافرون إلى المريخ قد يحتاجون إلى الخضوع إلى عملية غسيل الكلى في أثناء عودتهم.
قال الباحث في طب الكلى في جامعة كاليفورنيا في مدينة لوس أنجلوس والمؤلف الرئيس للدراسة الجديدة، كيث سيو، نيابةً عن نفسه وعن طبيب الكلى في المؤسسة نفسها والمؤلف المشارك للدراسة، بين والش: "وفقاً لما لدينا من معلومات حالياً؛ لم يبحث العلماء في تأثيرات رحلات الفضاء في صحة الكلى منذ نهاية سباق الفضاء.
ربما ما كان الأكثر إثارة للدهشة بالنسبة إلينا هو أننا لاحظنا أن الأدلة حول تأثير الإشعاع الفضائي في الكلى شحيحة للغاية". يعرف الأطباء من تجربتهم المباشرة أن كلى البشر حساسة للغاية للإشعاع. في الواقع، الكلى هي غالباً من العوامل الرئيسة التي تحد من مقدار العلاج الإشعاعي الذي يمكن تطبيقه على مرضى السرطان.
يقول عالم الطب في جامعة توهوكو اليابانية، نوريو سوزوكي؛ الذي لم يشارك في الدراسة الجديد، إن الكلى "تؤدي أيضاً دوراً مهماً في تشكيل حصوات الكلى وفقدان العظام، وكلاهما من المشكلات الرئيسة التي لوحظت لدى رواد الفضاء". الكلى مسؤولة عن تنظيف الدم وتنظيم كمية السوائل في الجسم، وإذا لم تعمل على النحو السليم أو إذا احتوى الجسم على كمية كبيرة من الملوثات، فقد يؤدي ذلك إلى الإصابة بحصوات الكلى أو أمراض أخرى. يقول سوزوكي إن فهم تأثيرات الفضاء في الكلى بالغ الأهمية "لتطوير الإجراءات الطبية الوقائية للمسافرين إلى الفضاء في المستقبل الذين لا يقتصرون على المشاهير الأصحاء".
اقرأ أيضاً: 8 أعراض للإصابة بحصى الكلى يجب أن تعرفها
ما الذي يحدث للكلى في أثناء الرحلات الفضائية؟
لاكتشاف ما يحدث في كلى الكائنات التي ذهبت إلى الفضاء، نظر سيو وزملاؤه في عينات بيولوجية من كلٍ من البشر والفئران والجرذان الذين ذهبوا إلى محطة الفضاء الدولية لإجراء تجارب مختلفة، بالإضافة إلى عينات من الكائنات التي خضعت إلى تجارب أرضية تعرضت فيها إلى مستويات من الإشعاع مقاربة لتلك السائدة في محطة الفضاء الدولية. لاحظ الباحثون بعض التغيرات الرئيسية التي طرأت في العديد من النواحي، وذلك باستخدام بول هذه الكائنات وبرازها ودمها وحتى أجزاء مستخلصة من الكلى (ولكن ليس من كلى البشر).
أولاً، لاحظ هؤلاء أن رحلات الفضاء تؤدي بطريقة ما إلى تعطيل وظيفة بروتينين موجودين في الكلى يؤثّران في قدرة الجسم على معالجة الكالسيوم. ثانياً، لاحظ الباحثون بعض التغيرات الكبيرة في جزء من الكلى يسمى "النُبيب الملتوي البعيد"، وهو جزء محدد من النفرونات التي تجري عملية التصفية. يقول سيو إن النُبيب الملتوي البعيد على وجه التحديد "مسؤول عن ضبط معالجة الجسم للكالسيوم والمغنيزيوم، ولكنه ربما معروف أكثر بأنه ينظم الصوديوم وضغط الدم".
يُضيف سيو قائلاً إن الأبحاث الطبية التي أُجريت على الأرض بينت مؤخراً أن النُبيبات الملتوية البعيدة "هي في الواقع لينة للغاية ويمكن أن تغير بنيتها في غضون أسابيع". يبدو أن قضاء الوقت في الفضاء يتسبب بتقصير هذه النبيبات؛ وهي ظاهرة نرصدها في الكائنات التي لا تتمتّع بصحة جيدة في الأرض. يبدو أن رواد الفضاء لا يفقدون المزيد من الكالسيوم بسبب ضعف عظامهم فحسب؛ بل يواجهون أيضاً صعوبة أكبر من المعتاد في التخلص من هذا الكالسيوم الزائد في الكلى؛ ما قد يؤدي إلى تشكل حصوات الكلى.
سبب هذه التغيرات المحددة ليس واضحاً حتى الآن، لكن المؤلفين يفترضون أن التغيرات في ضغط الدم بسبب انخفاض الجاذبية تتسبب بتطبيق ضغط إضافي على الكلى. من المؤكد أيضاً أن الإشعاع يمثّل تهديداً كبيراً، إذ عانت الفئران التي تعرضت إلى مستويات شبيهة بمستويات الإشعاع في الفضاء تلفاً مشابهاً في الكلى للتلف الذي تعرضت إليه كلى البشر الذين خضعوا إلى العلاج الإشعاعي؛ مثل جلطات الدم الصغيرة في الشعيرات الدموية في الكلى. بغض النظر عن السبب، من الواضح أن وسط الفضاء الخارجي القاسي يُغيّر بنية الكلى على نحو سلبي.
يقول سيو عن تجربة رائد الفضاء: "ما يلفت النظر هو أنه إذا شهد شخص ما تغيراً في بنية الكلى، فمن غير المرجح أن يشعر بأي أثر حتى يصاب بحصوة كلوية تحتّ الحالب أو، في حالة أخطر، تسدّه. ما زلنا لا نعلم إن كان بالإمكان عكس هذا التغير في بنية الكلى وما هي الفترة اللازمة لذلك".
على الرغم من أن هناك حاجة إلى إجراء المزيد من الأبحاث لفهم تأثيرات الفضاء في الكلى على نحو كامل، فقد توصل الباحثون إلى بعض الأفكار حول كيفية مكافحة مرض الكلى الكوني هذا. أحد المجالات التي من الواضح أن إجراء تغييرات فيها ضروري هو الحماية من الإشعاع؛ لكن الفكرة التي تبدو بديهية المتمثلة في إضافة دروع إلى المحطات الفضائية قد تضر أكثر مما تنفع في حالة جسيمات الإشعاع الكوني الفائقة السرعة. يقول سيو: "أُفضّل أن أشبه ذلك برصاصة تخترق لوحاً زجاجياً كبيراً؛ إذ إنه على الرغم من أن هذه الرصاصة ستتسبب بضرر كبير إذا خدشت كتف شخص ما، فإن الزجاج المكسور الذي ينهمر عليه هو الذي سيتسبب بالضرر الأكبر وقد يمثّل العامل الأكثر تهديداً للحياة".
اقرأ أيضاً: ما أطول زمن قضاه الإنسان في الفضاء وما التحديات التي واجهته؟
البديل هو توليد نسخة محمولة من الحقل المغناطيسي الأرضي الذي يحمي البشر من الإشعاع الكوني؛ وهي فكرة تحمل اسم "التدريع النشط". ينظر الباحثون الطبيون أيضاً في تطوير أدوية قد تساعد على مقاومة الإجهاد الإضافي الذي تتعرض إليه الكلى في الفضاء، سواء من خلال مكافحة الأكسدة أو دعم المتقدرات داخل الخلايا. يبدو أن المهمات البشرية المستقبلية إلى المريخ ستشمل معدات جديدة منقذة للحياة في رحلاتها.