ما الذي يدعو العلماء لاعتبار الحطام الفضائي تراثاً عالميّاً؟

المخلفات الفضائية: كنز ثمين يثير شغف علماء الآثار
رائد الفضاء باز ألدرين (Buzz Aldrin) يلقي نظرة على قاعدة ترانكويليتي بعد هبوط المهمة أبولو 11 على سطح القمر. وكالة ناسا
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

عندما نتحدث عن مصطلحات مثل التراث الثقافي وعلم الآثار، يمكن أن نستحضر صوراً لمشاهد تشبه سلسلة أفلام إنديانا جونز (Indiana Jones)؛ إذ يتخيّل الناس أشياء قديمة تكون مدفونة على مر العصور وتنتظر الكشف عنها. لكن حتى الآن، يُنتج كل شخص منا مواد يمكن أن تثير اهتمام الأجيال المستقبلية خلال محاولتها توثيق المعلومات التي تعكس الثقافة والحياة في عصرنا الحالي ودراستها.

بالنسبة لأولئك الذين يعتقدون أن استكشاف الفضاء ورحلات رواد الفضاء الأولى خارج كوكب الأرض لها أهمية ثقافية، توجد مجموعة واسعة من الأشياء التي تركتها هذه الرحلات الاستكشافية، سواء كانت مأهولة أو غير مأهولة (مثل مسابير الفضاء والأقمار الصناعية)، في الماضي والحاضر، في الأماكن البعيدة خارج الغلاف الجوي للأرض.

امتداد التراث البشري في الفضاء

يقول عالم الآثار في هيئة المسح الجيولوجي في ولاية كنساس، جاستن هولكوم (Justin Holcomb): “تمثل هذه الأجسام امتداداً لهجرة البشر التي بدأت في إفريقيا وامتدت لتصل إلى النظام الشمسي، أعتقد أن قطعة من مركبة هبطت في الفضاء تحمل القيمة الثقافية والتاريخية نفسها التي تحملها قطعة أثرية حجرية مكتشفة في إفريقيا”.

هذه الفكرة هي جوهر ما يسميه هولكوم وزملاؤه “علم الآثار الجيولوجية للكواكب” (planetary geoarchaeology). في ورقة بحثية نُشرت في مجلة جيوأركيولوجي (Geoarchaeology) في 21 يوليو/ تموز، يوضح علماء آثار الفضاء بالتفصيل رغبتهم بدراسة التفاعلات بين العناصر التي تركناها حول النظام الشمسي والظروف القاسية التي تواجهها في تلك البيئات. يعتقد المؤلفون أن هذا البحث سيزداد أهمية مع ازدهار النشاط البشري على القمر في العقود المقبلة.

إن فكرة توثيق ما يتركه البشر في الفضاء وحفظه ليست مفهوماً جديداً تماماً؛ ففي بداية القرن الحادي والعشرين، قامت عالمة الأنثروبولوجيا بجامعة ولاية نيو مكسيكو، بيث أوليري (Beth O’Leary)، التي شاركت في تأليف البحث مع هولكوم، بتسجيل الأجسام المنتشرة حول قاعدة ترانكويليتي (Tranquility)، وهي موقع هبوط المهمة أبولو 11 على سطح القمر. وساعدت أوليري لاحقاً في تسجيل بعض هذه القطع الأثرية في ولايتي كاليفورنيا ونيو مكسيكو بوصفها آثاراً ذات أهمية ثقافية.

اقرأ أيضاً: محطة الفضاء الدولية تعج بالبكتيريا، وقد يكون بعضها مؤذياً

البداية من قاعدة ترانكويليتي على القمر

يقول عالم الآثار في جامعة تشابمان في ولاية كاليفورنيا، الذي لم يشارك في البحث الجديد، جاستن وولش (Justin St. P. Walsh): “يمكننا القول إن قاعدة ترانكويليتي تُعد أهم موقع أثري موجود”. لا يمكن إعلان التربة القمرية للقاعدة موقعاً للتراث الثقافي، لأن ذلك ينتهك معاهدة الفضاء الخارجي لعام 1967، والتي تمنع أي دولة من المطالبة بملكية تربة القمر أو أي كوكب آخر في الفضاء الخارجي. لكن لا يزال بإمكان العلماء تسجيل الأشياء التي عُثر عليها هناك بوصفها تراثاً ثقافياً.

بطبيعة الحال، يتضمن فهرس أوليري بقايا مركبة المهمة أبولو 11 القمرية، والعلم الأميركي الشهير الذي رُفع عليها، بالإضافة إلى أكياس الطعام الفارغة وأدوات المائدة ومعدات النظافة والأسلاك. ما يعدّه بعض الناس حطاماً فضائياً، يُعد تراثاً ثقافياً ثميناً بالنسبة لعلماء الآثار الفضائية. يقول هولكوم: “حتى فضلات رواد الفضاء التي تراكمت منذ فترة طويلة لها قيمة مميزة، إذ إنها تحمل الحمض النووي البشري“.

تأثير البيئة الفضائية على المعدات

تتأثر المواقع الأثرية على الأرض بشدة بالعوامل والعمليات التي تحدث في البيئة المحيطة بهذه المواقع، سواء كانت هذه العمليات طبيعية أم اصطناعية. كذلك الأمر بالنسبة لقاعدة ترانكويليتي التي لا تُعد مكاناً هادئاً (كما يوحي اسمها)، أي إن ثمة نشاطات أو تأثيرات تحدث في هذا الموقع. يتعرض سطح القمر باستمرار لتأثيرات الأشعة الكونية والشهب الصغيرة؛ حتى هبوط المركبات الفضائية في مناطق بعيدة يمكن أن يثير عواصف من الطبقة الصخرية السطحية.

يرغب هولكوم وزملاؤه بدراسة التغيرات المختلفة التي تتعرض لها الأجسام بعد تركها على سطح القمر والكواكب الأخرى؛ لفهم كيفية تأثير العوامل البيئية على المواقع الأثرية وفهم التغيرات التي تطرأ على هذه المواقع مع مرور الوقت، ما يساعدهم في وضع استراتيجيات للحفاظ على هذه المواقع للأجيال القادمة. يقول هولكوم: “نحن نعتمد على منهجية تتجاوز النظرة الضيقة للمستقبل القريب، لذلك، لا يقتصر تركيزنا على السنوات الـ 5 المقبلة، بل نفكر ونخطط لفترات زمنية طويلة تصل إلى ألف سنة”.

يشير المؤلفون إلى أن هذا النوع من الأبحاث لا يزال جديداً تماماً. على سبيل المثال، يرغب هولكوم بدراسة ما يحدث لمركبة سبيريت (Spirit) التابعة لوكالة ناسا على سطح المريخ عندما تغطيها الكثبان الرملية. ربما تركز المشاريع الأخرى لعلم الآثار الجيولوجية للكواكب على التأثيرات التي تحدثها البيئة القمرية على المواد الاصطناعية التي تركناها على سطح القمر.

تقول عالمة الآثار في جامعة فليندرز (Flinders University) في أديلايد بأستراليا، والتي لم تشارك في البحث، أليس جورمان (Alice Gorman): “تمكننا معرفة مزيد من المعلومات حول ما حدث لهذه المخلفات خلال فترة وجودها هناك”.

صورة معدّلة بألوان غير حقيقية لحفرة إندورانس (Endurance) على كوكب المريخ التقطتها مركبة أبرتشونيتي (Opportunity) التابعة لوكالة ناسا
تستقر المركبة أبرتشونيتي الآن في كثبان المريخ الرملية نفسها التي كانت تصورها في أثناء مهمتها الاستكشافية. فقدت وكالة ناسا الاتصال رسمياً بالمركبة، التي استمرت في العمل لفترة طويلة، في عام 2019. وكالة ناسا/ مختبر الدفع النفاث/ جامعة كورنيل

على كوكب الأرض، تخطط جورمان وزملاؤها لاستنساخ آثار أحذية رواد الفضاء في مهمة أبولو على تربة اصطناعية تحاكي التربة القمرية، وتعريضها لقوى تشبه تأثير الانبعاثات الناتجة عن إطلاق الصواريخ. تعتقد جورمان أن هذا العمل ربما يثير اهتمام المهندسين، حتى لو لم يكن لديهم اهتمام سابق بالآثار. تقول: “ستحدث هذه العمليات نفسها لأي مستوطنات جديدة تُبنى على السطح، عند دراسة المواقع الأثرية، يمكننا البحث في فترات زمنية طويلة وفهم التغيرات التي حدثت على مر العصور”.

اقرأ أيضاً: ناسا تعود إلى القمر: تعرّف على أول أربعة رواد فضاء من جيل أرتميس

القمر هو محور التركيز المباشر لكل من مؤلفي هذه الدراسة وعلماء الآثار الفضائية الآخرين، ومن السهل معرفة سبب ذلك. بعد عدة عقود من المهمات غير المأهولة المتفرقة وعمليات التحليق، يعِد برنامج أرتميس (Artemis) التابع لوكالة ناسا بأنه سيقود تنظيم مهمات فضائية جماعية إلى سطح القمر. من المقرر أن تهبط المركبة التابعة لبرنامج أرتميس على القطب الجنوبي للقمر، بعيداً عن المواقع السابقة لهبوط مهمة أبولو. لكن ظهرت مجموعة من الشركات الخاصة التي تهدف إلى استخراج موارد القمر وليس مجرد الوصول إليه (كما فعل برنامج أبولو).

حماية مواقع التراث الفضائي

يخشى علماء الآثار الفضائية أن تعرّض هذه النشاطات المستقبلية المواقع الأثرية السابقة للخطر. يقول وولش: “لدينا معرفة ضئيلة جداً حول كيفية العمل على سطح القمر”.

ثمة دلائل تشير إلى أن المجتمع الفضائي الأوسع يفكر في هذه المشكلة. تعبر كل من اتفاقيات أرتميس (وهي وثيقة أطلقتها الولايات المتحدة، تهدف إلى تحديد المبادئ التوجيهية الأخلاقية للفترة المتعلقة بمهمة أرتميس)، وتوصيات فانكوفر بشأن التنقيب الفضائي (وهي ورقة بيضاء أعدها أكاديميون كنديون في عام 2020 وتقترح إطاراً للتنقيب الفضائي المستدام)، عن الرغبة في حماية مواقع التراث الفضائي.

اقرأ أيضاً: أرتميس1 أثبتت أهمية الألواح الشمسية في مستقبل استكشاف الفضاء

بالطبع، تُعد هذه الاتفاقيات مجرد وثائق غير ملزمة، ولا يعتقد علماء الآثار الفضائية أن هذه الوثائق تلبي مستلزمات حماية مواقع التراث الفضائي والمحافظة عليها. يرغب هولكوم وزملاؤه في إشراك الخبراء ضمن مجالهم في التخطيط، مثل توجيه المهمات العلمية والتجارية في الفضاء بعيداً عن المواقع التي ربما تتداخل مع التراث الثقافي الحالي. ثمة تجارب سابقة على الأرض تقدم نموذجاً لتكليف الخبراء بدور مماثل: في العديد من البلدان، يساعد علماء الآثار بالفعل في مشاريع البنية التحتية.

يقول وولش: “نحن ندرك أننا سنذهب إلى هناك في يوم من الأيام، لذلك، دعونا نتأكد من وجود إجراءات الحماية المناسبة قبل الشروع في أي نشاط يمكن أن يؤدي إلى الإضرار بالمواقع الثقافية أو التراثية”.

لا يمكن أن تحمي هذه الإجراءات التراث القمري من كل تهديد محتمل: فمن الممكن أن يهبط أحد الأقمار الصناعية في المستقبل هبوطاً اضطرارياً على قاعدة ترانكويليتي ويُدمّر آخر بقايا بعثة أبولو 11 الأخيرة هناك. لكنّ علماء الآثار الفضائية يشددون على أهمية اتخاذ أي خطوات ممكنة في هذا الصدد.

تقول جورمان: “أعتقد أن هذه الورقة البحثية تُبرهن على ضرورة أن تكون أي مهمة إلى القمر أكثر من مجرد عمل هندسي، إذ يجب أن تكون متعددة التخصصات وتتضمن تعاوناً بين مختلف المجالات، وإن نشر هذا البحث في هذا التوقيت هو أمر جيد للغاية، إذ لا يزال يتوفر لدينا الوقت الكافي لإدراج التوصيات التي يقدمها في المهمات الفعلية إلى القمر”.