أخيراً، وبعد عقد من الزمن، تمكّن «شيبرد دوليمان» من تحقيق ما كان يعتقده البعض مستحيلاً. شيبرد هو مدير مشروع تلسكوب أفق الحدث الذي يضمّ مئات الباحثين من مختلف الدول، وأمضى سنوات وهو يحلق حول العام حاملاً معه أقراصاً صلبة لجمع وتنسيق بيانات المراقبة التي جُمعت من التلسكوبات الراديوية في أربع قارات، بما فيها القارة القطبية الجنوبية. في 9 أبريل/ نيسان عام 2019، كُشف أخيراً عن ثمرة الجهد والتعاون المشترك بين هؤلاء العلماء، مانحاً العالم الصورة الأولى للثقب الأسود.
وصف «جيمس باردين» عام 1973 التقاط صورة لثقب أسود بأنه مستحيل، لكن ما حدث العام الماضي يعد إنجازاً كبيراً للتكنولوجيا الفلكية. وبعد الانتهاء من جمع البيانات وظهور صورة الثقب الأسود، لم يعد الباحثون يعلمون ماذا عليهم أن يفعلو بعد ذلك. يقول «أندرو سترومينجر»، عالم الفيزياء النظرية في جامعة هارفارد: «لقد تفاجئنا بعض الشيء بسرعة الوصول إلى هذه الصورة الرائعة للثقب الأسود. وقد سألني شيبرد ومايكل جونسون (عالم فيزياء الفلك ومنسّق مشروع تلسكوب أفق الحدث في جامعة هارفرد) ماذا سنفعل بهذه الصورة الآن، لقد التقطنا الصورة، والآن ماذا سنفعل؟»
قدّم سترومينجر ومجموعة من الباحثين بمختلف الاختصاصات الإجابة في مقالةٍ بحثية نُشرت الأسبوع الماضي في دورية «ساينس أدفانس». فمن خلال استخدام تلسكوب يمكن من خلاله الوصول إلى أماكن بعيدة للغاية، فإن مقراب أفق الحدث يمكنه تمييز انعكاسات متعددة لتدفق الضوء من حول الثقب الأسود. ثم من خلال فرز النمط الدقيق لهذه الأشعّة المُختلطة، يمكن لعلماء الفلك قياس الخصائص الأساسية للثقوب السوداء، واختبار نظرية موجات الجاذبية لآلبرت أنشتاين بطريقة استثنائية. يأمل العلماء بذلك أن يصبح بمقدورهم مراقبة الثقب الأسود مباشرة، مثلما يراقبون النجوم والكواكب، وليس فقط طرح النظريات حوله.
يقول «أليكس لوباسكاسا»، أحد منظّري جامعة هارفارد الذي عمل في البحث: «هذه الأشياء كانت بالنسبة لي مجرّد معادلات أحاول تصورها في ذهني، لكننا الآن بات بمقدورنا الحصول على صورٍ حقيقية لها».
أجرى الفريق حسابات طويلة يدوياً مستخدمين نظرية النسبية العامّة لأينشتاين، ومحاكاةً عالية الدقّة لتحليل ما تفعله الثقوب السوداء بالضوء. (تحذير: ستصبح العبارات غريبةً) يقول لوباسكاسا: «تفعل الثقوب السوداء أشياء عظيمة، من ضمنها ثَنَي الأشعّة الضوئية إلى حلقات».
بالنظر إلى قوانين الفيزياء المتعلقة بالأجسام الكثيفة، فإن الثقوب السوداء تمتلك قوة جذب كونية هائلة، وقد عرف الفيزيائيون منذ زمن طويل أن الضوء لا يستطيع الفرار منها. وبينما قد تجذب الأرض صخرة فضائية عابرة -جذبها إلى بعض المدارات قبل هربها إلى الفضاء مجدداً-، يمكن للثقب الأسود التقاط جسيمات الضوء الفعلية. أي شيءٍ يصطدم بالثقب الأسود يبقى داخله إلى الأبد، لكّن الفوتونات التي تقترب من حدوده كثيراً يمكن أن تقوم ببعض الانحناءات حول الثقب الأسود. يقول لوباسكاسا: «إنها الطبيعة المشوّهة للزمكان».
ما حسبه سترومينجر ولوبساسكا بالضبط هو البنية المحددة لمسار أشعّة الضوء، وكيف ستبدو من الأرض.
إليك كيف يعمل الأمر. مع اقتراب الأشعة الضوئية من الثقب الأسود، تجذبها قوة جاذبية الثقب الأسود العظيمة إلى المدار، ثم تقوم الأشعة التي تمر على مسافة معيّنة بالقرب من الثقب الأسود بعمل نصف انعطافة دائرية حوله قبل هروبها نحو الفضاء. الأشعة التي تمر أقرب قليلاً من الثقب الأسود قد تشكل دائرة كاملة قبل أن تعود من حيث أتت. بينما تقوم الأشعة التي تمر بالقرب أكثر من الثقب الأسود بعمل دورة ونصف، والأقرب أكثر من السابقة دورتين، وهكذا. يمكن لكل من هذه المجموعات اللا متناهية من الأشعة أن تُشكّل في النهاية صورة (إذا وصلت إلى عدسة الكاميرا أو مقلة العين)، لذلك يمكن أن ينتج عن الثقب الأسود عددٌ لا نهائي من هذه الصور. يشبّه سترومينجر التأثير الذي تتركه الأشعّة بالوقوف بين مرآتين كبيرتين ورؤية نفسك تتمدد عندما تتحرّك.
يقول سترومينجر: «في العالم المثالي ومن خلال النظر عبر تلسكوب مثالي، فإنّك ستنظر إلى الثقب الأسود، وسترى الكون بأكمله وليس فقط عدد لا نهائي من الصور المتداخلة».
لكن تلسكوب أفق الحدث، مثل جميع التلسكوبات، ليس مثالياً. كما أنه ليس تلسكوباً بالمعنى الحرفي للكلمة، بل مقياس للتداخل من الناحية التقنية. تعمل مقاييس التداخل من خلال مقارنة ملاحظات نقطة بعيدة من موقعين مختلفين. كلما ابتعدت المواقع بشكل أكبر، كانت ملامح الجسم المُراقب أكثر وضوحاً. ونظراً لأن انعكاسات الثقب الأسود المتتالية (التي قد تظهر على شكل حلقات للمراقب) تصبح أضعف أكثر فأكثر، فالفلكيون يحتاجون إلى استخدام المزيد من المراصد البعيدة لرؤية تلك الانعكاسات بوضوح أكثر. لسوء الحظ، ومع وجود نقاط للمراقبة (تلسكوبات) في تشيلي وهاواي وإسبانيا، وفي القطب الجنوبي أيضاً، فلم يعد هناك مجال لإضافة المزيد من التلسكوبات. يقول سترومينجر: «لقد استخدموا بالفعل الأرض بأكملها كي يتمكنوا من رؤية الصورة الأولى».
للكشف عن حلقات الانعكاس، ما زال يتعيّن على تلسكوب أفق الحدث أن يتوسّع أكثر. خلص مؤلفو البحث في نهاية المطاف إلى أنه ينبغي إضافة مرصد فضائي إلى شبكة تلسكوب أفق الحدث. نحتاج إلى تلسكوب واحد فقط. قد يتمكّن قمر صناعي يدور حول الأرض من اكتشاف الحلقة الأولى، وقد تتمكّن الأقمار الصناعية التي تدور حول القمر من رؤية الحلقة الثانية. وإذا تمكنوا من إرسال مركبة فضائية إلى موقع محدد بين الأرض والشمس، والمعروف باسم نقطة «لاجرانج الثانية» (وهي بالمناسبة وجهة تلسكوب جيمس ويب الفضائي القادم)، فيمكنهم رؤية الحلقات الثلاث الأولى. تكلف هذه المهمة بضع مئات الملايين من الدولارات -باهظة التكلفة ولكنها ليست بتكلفة المشاريع العلمية الضخمة. يقول لوبسكاسا: «سيفعل شخص ما ذلك في يوم من الأيام، هي فقط مسألة وقت».
بعد أن يحصل المشروع على الدعم المالي الكبير، سيحصل علماء الفيزياء على ثروة من البيانات والمعرفة عن الثقب الأسود. ستعمل مراقبة الحلقات كأول اختبار لنظرية النسبية العامة في بيئة ذات كثافة جاذبية كافية لثني أشعة الضوء إلى حلقاتٍ كاملة. في الواقع، إن الطريقة التي تضيق بها الحلقات دقيقة جداً، لذا فإن أي انحراف أو تشوّه بها يشير إلى حدوث شيء غريب. يقول لوباسكاسا: «ليس لدينا مجال كبير للمناورة، ستذهب إلى هناك وستجري قياساتك، وهي إما ستتطابق مع النظرية أم لا».
يتوقّع قليل من المنظرين في الفيزياء النظرية انهيار نظرية أينشتاين، لكنّهم أكثر حماساً لما يمكن أن تكشفه الحلقات من اثنين من الثقوب السوداء القريبة بما يكفي لتصويرها بهذه الطريقة. في الواقع، لدى علماء الفلك عدة طرق لقياس الخصائص الأساسية للثقب الأسود، مثل كتلته ودورانه، ولكن عليهم القيام بالكثير من الافتراضات للقيام بذلك. يعتمد نمط الحلقة على الثقب الأسود فقط -ولا علاقة له بالبلازما المتوهجة والحطام القريب حوله- لذا فإن مثل هذه المراقبات يمكن أن توفّر للفيزيائيين طريقة أسهل للإجابة على أسئلتهم حول هذه الأشياء المبهمة.
هذا التحليل ليس سوى البداية فقط. بعد أن نُشر البحث في الصيف الماضي (قبل أن يخضع لمراجعة الأقران)، أدّى لظهور العديد من الأبحاث التالية التي تهافت الفيزيائيون من خلالها على شرح النظرية. تقول «إليزابيث هيمويتش»، خريجة جامعة هارفارد التي قدّمت بحثاً حاولت فيه شرح كيف يتغير نمط الضوء من حلقة إلى أخرى: «تم التأكيد على أن هناك الكثير من التفاصيل الرائعة التي لم نكتشفها بعد، الأمر الذي أثار حماسنا بشأن التوقيعات الجديدة المحتملة».
يشبّه لوبساسكا الجهود المبذولة حالياً بتلك التي كانت أيام الاكتشافات الأولى في علم الأحياء. يقول: «قبل أن نتمكّن من فهم تسلسل الحمض النووي واستخدام تقنية كريسبر لنسخ وتحرير الحمض النووي، كنّا نذهب إلى الغابة ونقول «هذه شجرة، إنها زهرة». نحن الآن في هذا المكان بالنسبة لاكتشاف الثقب الأسود بالعلم التجريبي».