لن يُحدِث اكتشاف موجات الجاذبية نفس الضجة التي رافقت اكتشافها لأول مرة منذ 3 سنوات. تستمر هذه المراصد -التي يمكن القول إنها من أكثر الأدوات حساسية- بتزويدنا بالعلوم المعرفية عن الأحداث الكونية التي كنا نجهلها حتى وقت قريب. كنا قد درسنا اندماج أزواج من الثقوب السوداء، واصطدام نجم نيوتروني بآخر، وربما نشهد أخيراً علامات على وجود ثقب أسود يصطدم بنجم نيوتروني. وهو الأمر الذي لم يكن العلماء متأكدين منه بالفعل.
تقول «كاترينا تشاتزيانو»، عضو فريق ليغو في مركز الفيزياء الفلكية الحاسوبية بمعهد فلاتيرون في نيويورك، والتي ستصبح أستاذة في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا قريباً: «إنه اكتشاف لنظام فيزيائي فلكي جديد لم يكن وجوده مؤكداً من قبل». وتضيف: «لقد تم وضع نظريات في هذه النظم لتتشكل في بيئات فيزياء فلكية متنوعة، مما يثبت وجودها ويسهم في إمكانية تقدير مدى شيوعها، مما سيمكننا من معرفة البيئات التي تشكلت فيها».
خلاصة القول: تم الكشف عن مجموعتين جديدتين من رصد لموجة جاذبية في 25 - 26 إبريل/ نيسان، باستخدام زوج من أجهزة قياس التداخل التي يديرها مرصد الموجات الجاذبية بالتداخل الليزري (ليغو)، ومقره في ليفينغستون، ولويزيانا، وهانفورد وواشنطن، إضافة إلى مرصد قياس التداخل فيرجو في إيطاليا. بينما يبدو أن الإشارات السابقة نشأت من زوج من النجوم النيوترونية تصطدم ببعضها البعض (وهي أجسام فائقة الكثافة تتألف من نيوترونات متراصة، والتي تتشكل من انهيار النجوم الضخمة عقب تفجر النجم الأعظم فائق التوهج المسمى سوبرنوفا)، يبدو أن تلك الإشارات تأتي من اندماج نادر لنجم نيتروني مع ثقب أسود.
تأتي هذه الاكتشافات الجديدة في أعقاب تطوير كبير لمرصدي ليغو وفيرجو، حيث زادت قوة أشعة الليزر الخاصة بها للضعف، مما يقلل من تأثير الضوضاء، ويزيد من حساسية أجهزة الكشف بنسبة 40% تقريباً. يقول «رانا أديكاري»، عضو فريق ليغو وأستاذ الفيزياء في جامعة كاليفورنيا للتكنولوجيا: «كان من الممكن أن نكتشف هذا في السابق، إلا أن تطوير حساسية المراصد مكنتنا من الحصول على صورة أكثر دقة»، وأضاف: «يمكن أن نشبه الأمر بإجراء محادثة في غرفة هادئة بدلاً من مقهى مزدحم».
يُعتقد بأن اكتشاف نجمين نيوترونيين في 25 إبريل/ نيسان، والذي أطلق عليه اسم «S190425z»؛ قد حدث على بعد حوالي 500 مليون سنة ضوئية من الأرض (وهو ما يفوق أول عملية اندماج نجم نيوتروني بمرتين إلى 3 مرات). وقد تم التقاط موجات الجاذبية الصادرة عن هذا الحدث من قبل مرصدي «ليغو ليفنغستون» و«فيرجو» فقط (حيث كان مرصد هانفورد في وضع عدم الاتصال حينها)، وبهذا فإن نقص الرصد التام يعني أننا لم نتمكن بعد من الوصول إلى تفسير دقيق واضح لهذا الحدث (يقدر بأن هذا الاحتدام يشغل مساحة تقارب ربع مساحة السماء).
بينما يتوقع بأن تصادم النجم الثقب الأسود الذي وقع في يوم 26 إبريل/ نيسان، والذي أطلق عليه «S190426c»، ربما حدث على بعد حوالي 1.2 مليار سنة ضوئية من الأرض. التقطت جميع المراصد الثلاثة إشارة أضعف بكثير مما سبقها، مما مكن العلماء من تحديد دقيق للموقع والذي قدر بـ 3 % من مساحة السماء.
كيف لنا أن نعرف بأن هذا اندماج بين نجم نيوتروني وثقب أسود، وليس مجرد أزواج من أي نوع؟ يرى تشاتزيانو أن الأمر يتعلق بالكتلة. فعادة ما تمتلك النجوم النيوترونية كتلة أقل من كتلة الثقوب السوداء، تقع التقديرات القادمة من إشارات موجة الجاذبية التي تم قياسها في نطاق متوسط أقرب إلى المعتدل، وبالتالي لا تعتبر خفيفة جداً أو ثقيلاً.
ولسوء الحظ كان هذا كل ما تمكنا من معرفته عن أصل الإشارات المرصودة بتاريخ 26 إبريل/ نيسان. نحن نحتاج إلى التأكد من كونها نشأت بالفعل عن اصطدام نجم نيوتروني بثقب أسود، قبل أن نقوم بالتحري عما كانت تبدو عليه هذه الأشياء من قبل، وما هو شكل الوهم الكوني الآن. يوضح تشاتزيانو أنه وفريقه بحاجة إلى بعض الوقت لتصفح بيانات موجة الجاذبية، بالإضافة إلى قياسات أخرى مثل أشعة جاما وأشعة إكس. قد يساعد ذلك أيضاً على اكتشاف المزيد من الأحداث، كتلك القادمة في الأشهر المقبلة لضمان أنها لم تكن إنذاراً خاطئاً. في الوقت الحالي، ويرجح الاحتمال في أن يكون هذا الاندماج بين ثقب أسود ونجم نيوتروني بما يقدر بأربعة أضعاف عن احتمال كونه مجرد اندماج زوج نجمي نيوتروني.
لكن من المؤكد أنه لا يوجد نقص في الأفكار حول كيفية وقوع مثل هذا الحدث. يقول «شون جوش» أحد الباحثين في مرحلة ما بعد الدكتوراه في جامعة ويسكونسن ميلووكي، وعضو في فريق ليغو، أن إحدى النظريات تقترح أنه نظام متطور، حيث يقضي نجمان هائلان حياتهما في نظام ثنائي، ويتطوران ثم يتشكلان أحدهما كنجم نيوتروني، والآخر كثقب أسود. تصدر موجات الجاذبية عن هذين الكائنين المضغوطين، ويفقدان الطاقة وعزم الاندفاع، وتتقلص المسافة الفاصلة بينهما ليحدث الاندماج في نهاية الأمر. تشتمل نظرية أخرى على ما يسمى بـ«الالتقاط الديناميكي»، حيث يتقارب نجم نيوتروني وثقب أسود بشكل تصادفي، وينجذبان نحو بعضهما الآخر بشكلٍ تفاعلي لينتهي الأمر باندماجهما.
يشدد جوش على أنه نظراً لأن الثقوب السوداء لا تمتلك سطحاً فعلياً، فإن اندماج النجم النيوتروني مع الثقب الأسود لا يمثل تصادماً حقيقاً -كذلك الذي يمكن أن يتبعثر في كافة الاتجاهات- بل إنه أقرب إلى عملية تكسير ناعمة لكلا الجسمين. وقد صرح جوش قائلاً: إذا كان الحدث قد نتج بالفعل من اندماج نجم نيوتروني مع ثقب أسود، فإن جاذبية الثقب الأسود قد تشوه النجم النيوتروني بدرجة كافية، مما يؤدي إلى تفتيته إلى أجزاء صغيرة. وبالتالي فإن هذه العملية يمكن أن تشكل مداراً فلكياً يدور حول نقطة التعاكس الخاصة بالثقب الأسود.
إذا تمكنا من تأكيد هذه النظرية فسيكون هذا اكتشافاً مذهلاً. لطالما استمر التأكيد على وجود موجات الجاذبية كدليل على جزء رئيسي من نظرية النسبية العامة لآينشتاين، لكن يأمل الكثيرون أن يساعد هذا الاكتشاف لمثل هذه الإشارات في رؤية عالم جديد بالكامل من الفيزياء الفلكية. وعلى ما يبدو فإنه يمكن لهذا الاكتشاف أن يكون واحداً من الأمثلة الأولى لتلك الإمكانات المحققة.
يقول تشاتزيانو: «يحمل أي نظام ينطوي على نجم نيوتروني معلومات حول المادة الكثيفة وفق قيم حدية شديدة للكثافة» ويضيف: «لذلك، فإنه من خلال دراسة بيانات موجة الجاذبية، قد نكون قادرين على استنتاج شيء ما حول خصائص مادة النجم النيوتروني». ويرى جوش بأن متابعة هذه الملاحظات يمكن أن تساعدنا في فهم الآثار الفيزيائية التخريبية التي تحدث تحت تأثير الجاذبية الشديدة الصادرة عن الثقوب السوداء.
سيستغرق فريقي ليغو وفيرجو بعض الوقت لإرساء النتائج وجعلها أكثر منطقية، ولكن إن كانت الجولة الأولى من هذه الفرضيات صحيحة، فإننا على أعتاب نقلة نوعية كبيرة في فهمنا للفيزياء الفلكية للكون الذي نعرفه.