لطالما اقترن مرور المذنبات عبر السماء بمعانٍ متعددة على مر السنوات، منذ يوليوس قيصر ووصولاً إلى وباء الطاعون، ومع ذلك لم يكتشف علماء الفلك حقيقتها إلا مؤخراً. فعلى عكس الكواكب والكويكبات وغيرها من الكتل الصخرية التي تسبح في الفضاء، تتكون المذنبات من الجليد مع مقدار ضئيل من الغبار، وتمثل تلك الكتلة الجليدية -المُكونة من جزيئات أول أكسيد الكربون، والميثان المتجمد، والماء، ومركبات أخرى- سجلاً نادراً، يعطي لمحة عن بدايات تكوين النظام الشمسي، عندما بدأت المواد الكيميائية والغبار النجمي في الانتظام على شكل قرص، والدوران حول الشمس. ومنذ ذلك الحين لم تُبْقِ الكواكب أي أثر يخص تلك المركبات التي تشكلت منها، وتوجد هذه المركبات الآن فقط في كرات الجليد التي يبلغ طولها أميالاً عدة، والقادمة من مدارات تقع خارج مدار بلوتو.
تقول «أنيتا كوكران»، عالمة الفلك بجامعة تكساس بأوستن، «إن المذنبات تبقى متجمدة طيلة حياتها، وحين ندرسها فنحن نعاين أساساً تاريخ تكون النظام الشمسي».
ويحاول الباحثون حالياً صياغة قصة متماسكة عن نشأة النظام الشمسي؛ بالاعتماد على جميع المعلومات التي جمعوها عنه وعن المذنبات. بدايةً درس مجموعة من الباحثين عدداً من المذنبات، وقارنوا تركيبتها مع تنبؤاتهم بشأن المواد الكيميائية التي احتوى عليها «القرص الكوكبي الأولي» الذي شكل النواة الأولى للنظام الشمسي، وبعد إجراء الاختبارات على مذنبات عدة، تراوحت مداراتها حول الشمس بين عقد وآلاف السنين، وجد الباحثون أمراً غير متوقع!
يقول «كريستيان إيستروب»، عالم الفلك بجامعة فرجينيا، الذي قاد البحث بوصفه جزءاً من أطروحته للحصول على درجة الدكتوراه: «ربما تكون هذه المذنبات كلها قد تكونت بالفعل في المدار نفسه، في حلقة حول القرص الذي تشكل منه النظام الشمسي». وتطلَّب التوصل إلى الأصل المشترك المحتمل للمذنبات؛ جمع ملاحظات عقود ودمجها مع نظريات جديدة، تفسر كيفية تشكل النظام الشمسي. وعلى مستوى الملاحظة فحص إيستروب الأبحاث السابقة، وصنَّف يدوياً المركبات الكيميائية المرصودة ومصدرها، أما على الجانب النظري فقد استفاد هو ومعاونوه من تقنيات الكيمياء الفلكية، وهو مجال يدرس كيمياء الفضاء. وساعدت التلسكوبات القوية التي ترصد الأشعة تحت الحمراء؛ مثل: تلسكوب ألما، وتلسكوب سبيتزر الفضائي، في تحديد الجزيئات التي تدخل في تكوين أقراص كوكبية تدور حول نجوم أخرى.
وللغاية نفسها تعمل مختبرات أرضية على تقليد ظروف الفضاء؛ من أجل تفسير العملية التي اجتمعت عبرها جزيئات الجليد والغبار معاً مكونة في النهاية الكواكب.
وعلى سبيل المثال ترى إحدى النظريات المقترحة أن النظام الشمسي نشأ من ذرات، وليس من جزيئات. يشرح إيستروب هذه الفكرة بقوله: «إن الجزيئات الأولية ربما كان مصدرها جزيئات الجليد الأصلية التي اندفعت بين النجوم»، لكن فكرته التي تفسر كيفية تشكل المذنبات لا تستقيم إلا إذا افترض المرء أنها نشأت من الذرات: قطع صغيرة من الجليد النجمي، نسفت بسبب الانفجارات المبكرة من الشمس الفتية.
ومن خلال المحاكاة الحاسوبية درس إيستروب كيف يمكن أن تؤدي التوزيعات المختلفة لنسب الميثان، وثاني أكسيد الكربون، وجزيئات أخرى في القرص الكوكبي الأولي إلى تكَوُّن المواد الكيميائية التي رُصِدَتْ في المذنبات، وتَوصَّلَ إلى أن مجموعة من الشروط طابقت البيانات المستقاة من المذنبات؛ إذ من المحتمل أن تكون المذنبات الأربعة عشر جميعها تشكلت في درجات حرارة، تتراوح بين 21 درجة كلفن و28 درجة كلفن، أي بين -422 و -409 درجة فهرنهايت تقريباً (- 252 و - 245 درجة مئوية)، وتجمعت في منطقة ضيقة، وتحركت مبتعدة عن الشمس بينما اعتدلت درجة الحرارة في النظام الشمسي، وبعدها أرسلت الكواكب الغازية العملاقة؛ مثل كوكب المشتري، هذه المذنبات خارج النظام الشمسي، ومنحت تلك المتبقية مداراتِها الطويلة البيضوية الشكل التي نعاينها اليوم، وستنشر نتائج هذا البحث في دورية علم الفلك والفيزياء الفلكية.
ومع ذلك يظل بعض الباحثين مترددين في إعلان اقتناعهم بالنظرية التي اقترحها البحث لكيفية تشكل المذنبات، وفي هذا الصدد تُصرِّح كوكران: «لا يمكنني إخبارك ما إذا كانت نتائج البحث صحيحة أم لا. لكن وجهة النظر المقترحة المتمثلة في دراسة المذنبات ومحاولة اكتشاف تاريخ تشكلها فكرةٌ صائبة».
تود كوكران أن ترى إيستروب وهو يوسع عيّنته لتشمل مجموعة مختلفة من المذنبات؛ مثل: المذنبات ذات المدارات الطويلة، والمذنبات المتفككة، وتسلط الضوء بالخصوص على مذنب غريب -اكتُشف مؤخراً- ترى أنه قد يتحدى النموذج الذي قدمه. ومن جانبه يعتقد إيستروب أن نموذجه سيصمد أمام هذا التحدي، لكنه متفق مع هذا النقد، ويقول: «ثمة مليارات من المذنبات في الكون؛ لذلك فدراسة 14 مذنباً فقط لا يمثل عينة كبيرة بما فيه الكفاية».
ويُعدُّ عدم معرفة التركيب الكيميائي الدقيق لكل مذنب نقطة ضعف أخرى تواجه نموذج إيسترو، الذي يرى أن تحديد مختلف المركبات التي تتكون منها المذنبات سيزيد دقة المحاكاة الحاسوبية، وسيؤدي ذلك إلى فهم أفضل لمذنبات شهيرة؛ مثل: مذنب هالي، ومذنب «67P»، الذي استضاف مركبة الفضاء الأوروبية روزيتا، كما سيؤدي إلى إجابات أقل وضوحاً لمذنبات أقل شهرة.
ومن أجل زيادة دقة المحاكاة الحاسوبية، يأمل الباحثون جمع عينة من المذنبات وإعادتها إلى الأرض، مثلما فعلت مهمة هايابوسا اليابانية مع غبار الكويكبات، وعندها سيتمكن الباحثون من التحقق من تركيبة المذنب بدقة، ومقارنتها مع قياساتهم. وحالياً سيتعين على الباحثين الاكتفاء بعملية التخمين والتحقق، التي يضطلع بها أصحاب النماذج الحاسوبية وعلماء الفلك، وتقول كوكران: «سيتمكن الباحثون من تحديد النماذج الصالحة وغير الصالحة تدريجياً، وفي الوقت نفسه سيجد مراقبون مثلنا مذنبات تتحدى وجهات نظرهم».