في عام 1915، نشر "آلبرت آينشتاين" نظرية النسبية العامة التي غيّرت كل مفاهيمنا حول قوانين الجاذبية. فبعد أن كانت قوانين "نيوتن" التي تفسر الجاذبية على أنها قوة جذب بين جسمين مختلفين تتحكم فيها الكتلة والتسارع ومعامل الجاذبية، والتي استُخدمت في تفسير قوانين كيبلر عن مدارات الكواكب، جاء آينشتاين ليُعطي مفهوماً مختلفاً حول الجاذبية باعتبارها انحناء في نسيج الكون "الزمكان". بعدها اكتشف عالم الفلك الألماني "كارل شوارزشيلد" -استناداً على معادلات آينشتاين- أنه إذا تم ضغط جسماً كروياً إلى حجمٍ صغير جداً، فإنه سيتسبب في حالة من السحب الثقيل الهائل في نسيج الكون، ما يجعل الضوء نفسه غير قادر على الهروب منه، وهو ما نعرفه الآن الثقب الأسود.
تنتهي النجوم الهائلة بتحولها إلى ثقوب سوداء، فعندما يستنزف النجم طاقته، وينفجر، ينهار على نفسه متحولاً إلى ثقب أسود ليبتلع كل ما حوله حتى الضوء، وهو ما تنبأت به معادلات آينشتاين منذ مائة عام.
الثقوب السوداء والموجات الثقالية
في عام 2015، تم الإعلان عن رصد الموجات الثقالية التي تنبأ بها آينشتاين أيضاً في نظريته، والتي جاءت نتيجة اصطدام ثقبين أسودين عملاقين، لتؤكد هذه الموجات على وجود الثقوب السوداء، إلا أننا بالرغم من رصدها لم نكن نمتلك حينها أيضاً أي صور حقيقية للثقوب السوداء. ساهمت تلك الموجات أيضاً في التأكد من وجود ثقب أسود عملاق في مركز مجرتنا "درب التبانة"، والذي يصل إلى 4 ملايين ضعف كتلة الشمس، ما يجعل النجوم تدور حوله بسرعة هائلة.
محتويات الثقب الأسود
كما ذكرنا سابقاً، ينشأ الثقب الأسود جراء موت نجمٍ اندثر على نفسه في نقطة صغيرة عالية الكثافة تُعرف بنقطة "التفرد". تقع تلك النقطة في مركز الثقب، وهي المصدر الرئيسي لجاذبيته الضخمة. ومع هذا التيار الكبير، تُسحَب العديد من الغازات لتسقط في مدار الثقب وتدور من حوله بسرعة هائلة ثم تسخن وتتوهج وتظهر لدينا في صورة الحلقة التي نشاهدها في تلك الصور التخيلية للثقوب السوداء، والتي تعرف بظل الثقب. ويرجع سبب عدم سقوطها داخل الثقب لكونها لم تعبر منطقة "أفق الحدث" التي تعرف بمنطقة اللاعودة. هذه المنطقة بمثابة الحد الفاصل بين ما داخل الثقب وما خارجه، وبذلك يحافظ الثقب الأسود على صورته التي يتلاعب بها تأثير دوبلر جاعلاً توهجها يزداد في إحدى المناطق عن الأخرى وفقاً لاتجاه النظر وحركة الثقب.
كيف التقطنا هذه الصورة؟
تخيّل أننا نريد تصوير تفاحة على سطح القمر، في هذه الحالة سنحتاج إلى تلسكوب ضخم في حجم الكرة الأرضية حتى يتمكن من التقاط الصورة بدقة شديدة. من هنا نشأت الفكرة، فبدلاً من صناعة تلسكوب بحجم كوكب الأرض - فضلاً عن كونه أمراً مستحيلاً- تم توصيل 8 تلسكوبات لاسلكية راديوية - ضمن مشروع "أفق الحدث EHT"- ببعضها البعض في مناطق مختلفة على كوكب الأرض، ومتزامنة مع بعضها باستخدام أنظمة الملاحة والساعات الذرية الدقيقة، وتعرف تلك التقنية بـ "قياس التداخل مديد القاعدة VLBI".
يقوم كل تلسكوب بالتقاط قطعة من الأحجية، وبفضل دوران كوكب الأرض، تتغير مواقع التلسكوبات بشكلٍ مستمر، مما يجعلها تحصل على قطعة جديدة من الأحجية حتى تتشكل الصورة النهائية. وهذا ما حدث بالفعل، فقد تم تشغيل التلسكوبات الثمانية، على مدار 9 أيام في شهر أبريل / نيسان 2017، وتوجيهها نحو ثقبي "ساجيتاريوس أ" الواقع في مركز مجرتنا، و ثقب مركز مجرة "ميسييه 87" الواقعة في كوكبة العذراء، والتي تبعد عنا حوالي مسافة 54 مليون سنة ضوئية.
بعد عامين كاملين من جمع وتحليل البيانات التي التقطت خلال فترة تشغيل هذه التلسكوبات، تم الإعلان يوم الأربعاء 10 أبريل / نيسان 2019 عن أول صورة حقيقية استطاع البشر التقاطها لثقبٍ أسود -والواقع في مركز مجرة ميسيه 87 على بعد 54 مليون سنة ضوئية- والذي جاء بالشكل الذي تنبأت به معادلات آينشتاين تماماً، ليصبح عرّاب الفيزياء الحديثة على حقٍ مرة أخرى.
تصل كتلة الثقب الأسود الذي تم التقاطه إلى حوالي 7 مليارات كتلة الشمس، ويصل عرضه إلى 100 مليار كيلو متر أي ما يعادل تقريباً 22 ضعف المسافة بين الشمس وكوكب نبتون، لذا ركز العلماء على التقاط صورة هذا الثقب نظراً لكبر حجمه واتساع عرضه مقارنةً بثقب "ساجيتاريوس أ" الذي يقع في مركز مجرتنا. وتشير الصورة التي تم التقاطها إلى ظل هذا الثقب، ويبدو أكثر لمعاناً في ناحية عن الأخرى نظراً لدورانه، حيث يصبح أكثر لمعاناً في الناحية المقابلة لنا، بينما يقل اللمعان عند الابتعاد.
وصل عدد العاملين بمشروع تلسكوبات أفق الحدث إلى 200 عالِم من مختلف التخصصات، وتم توليد بيانات بحجم يصل إلى 5 بيتا بايت (ما يعادل 5000 تيرابايت، أي 5 مليون جيجا بايت)، وهو حجم ضخم من البيانات، لذا قام العلماء بنقله عبر وحدات التخزين الصلبة إلى المراصد من أجل تحليلها وفقاً للخوارزميات التي تم ابتكارها خصيصاً لهذا الغرض.
كيف سيساعدنا هذا الاكتشاف؟
يُعد هذا الاكتشاف دليلاً على قوة وتطور العقل البشري في كشف أسرار الكون، فهذه هي المرة الأولى التي نرى فيها ما لا يمكن رؤيته، وبالتأكيد لن يتوقف الأمر عند هذا الحد. ستؤدي نتائج هذا المشروع إلى فتح الباب أمام اكتشافات أخرى كثيرة حول الثقوب السوداء ومحتوياتها، والتي ربما تصل بنا في يومٍ ما إلى اكتشاف مصير المعلومات التي تسقط داخل الثقوب السوداء، لنكتشف حينها كافة الأجوبة على جميع التساؤلات حول نشأة الكون ومصيره.
منذ سنوات قليلة، شهدنا دلائل وجود الموجات الثقالية، واستطعنا رؤية كوكب بلوتو بوضوح، كما عاصرنا خروج مركبة "فوياجير" التي بناها البشر من حدود المجموعة الشمسية ، ومسبار "باركر" المتوجه إلى الشمس ليدور حولها ملامساً غلافها الخارجي، واليوم نشاهد الشكل الحقيقي للثقوب السوداء، ومن يدري، ما الإنجازات التالية التي سيستطيع العقل البشري تحقيقها من سطح تلك النقطة الزرقاء الباهتة في هذا الكون الشاسع.