يقضي علماء الفلك الكثير من وقتهم في التأمّل، وتحليل الأحداث التي وقعت منذ زمنٍ بعيد على بعد ملايين السنين الضوئية من كوكبنا. لكن عندما يكون هذا الموضوع مثار نقاشٍ بين علماءٍ من مختلف أنحاء العالم، أو عندما يحتاج الأمر مزيداً من التحاليل عبر إجراء عمليات محاكاةٍ ضخمةٍ بواسطة أجهزة الكمبيوتر العملاقة المستهلكة للطاقة، قد يكون للأبحاث الفلكية حينها تأثيرٌ كبيرٌ على كوكبنا.
بدأ الباحثون يدركون أكثر أنه بالرغم من أن الأفكار لا تُنتج انبعاثاتِ الكربون، إلا أن الأبحاث العلمية قد تكون كذلك. يعمل 3 علماء فلكٍ أستراليين حالياً على تقدير كمية ثاني أكسيد الكربون التي تنتجها أنشطتهم المهنية. فوفقاً لتقريرٍ نشروه مؤخراً على موقع «أركسيف»، يُصدر نشاطهم المهني ما لا يقلّ عن 15 ألف طنّ من ثاني أكسيد الكربون سنوياً في أستراليا وحدها، ما بين السفّر لحضور المؤتمرات والأعمال المتعلّقة بها، والتحاليل التي يجرونها، بالإضافة لإضاءة مكاتبهم، والحفاظ على مراصدهم تعمل باستمرار، أي ما يعادل تقريباً الانبعاثات السنوية الصادرة عن 2000 منزل تقريباً. وبالرغم من أن هذا الرقم يمثّل جزءاً صغيراً من انبعاثات الكربون الناجمة عن السفر بالطائرة على المستوى العالمي، والذي أنتج ما يقربُ من مليار طن من ثاني أكسيد الكربون في عام 2018 على سبيل المثال، يقول البعض أنه ينبغي أن يكون جرس إنذارٍ لأولئك الذين يعملون أساساً المواجهة مشكلة الانبعاثات.
يقول «جيمس لوينثال»، عالم الفلك في كلية سميث الذي شارك في تأليف تقرير مماثل خلال الصيف الماضي: «نحن نسهم بانبعاثات غاز الكربون. والكثيرٌ من الناس يحترمون علماء الفلك بسبب عملهم، في الواقع، بإمكاننا تغيير هذا الواقع كي نكون عند حسن ظنّهم».
يَنتجُ عن أنشطة الرصد التي يقوم بها كلّ عالمِ فلكٍ سنوياً لوحده ما يصل إلى 20 طنٍّ من ثاني أكسيد الكربون. وهذه الكمية مقاربةٌ لما ينتجه القاطن النموذجي في البلدان المتقدمة على المستوى المهني والشخصي. بالنسبة للفلكيين، فإن 45% من هذه الانبعاثات تأتي من استخدام مجموعاتٍ من أجهزة الكمبيوتر العملاقة، ونحو 30% تأتي من السفر بالطائرة، و12% من تزويد مكاتبهم بالطاقة، أما نسبة 13% المتبقية، فتأتي من مكانٍ واحد وهو مرصد «موريشيسون الراديوي» في أستراليا، والذي يضم العديد من معدّات الرصد المتقدمة. ونظراً لعدم تضمين تأثير المراصد الأخرى، فمن المحتمل أن تقلّل الحسابات من تأثير النشاط الفلكي الكلّي في البلاد.
يقول الباحثون أن العلماء الذين يتجاهلون هذه التكلفة البيئية غير المرئية يمارسون شكلاً مؤذياً من أشكال الإنكار يُطلق عليه تعبير «الإنكار الضمني»، حيث يعترف الشخص بأخطار التغير المناخي ومع ذلك يختار عدم التصرّف لمواجهتها. يأمل مؤلفوا الدراسة في أن تلهم أبحاثهم علماء الفلك الآخرين على المساهمة بنشاط في حل أزمة المناخ بدلاً من وقوفهم متفرجين من الجانب الآخر.
وللقيام بذلك، يقدّم المؤلفون توصيتين رئيسيتين. أولاً: يجب على الباحثين التفكير ملياً، وترشيد استخدامهم لأجهزة الكمبيوتر العملاقة لتشغيل عمليات المحاكاة التي يقومون بها؛ عليهم استخدام أكوادٍ برمجيةٍ لتنفيذ المحاكاة بحيث تكون أقلّ تطلباً للطاقة لتنفيذها في المقام الأول، وعلى الجامعات استئجار المجموعات الحاسوبية التي تعمل على الطاقة المتجددة فقط. يشير «لونيثال» إلى أنّ التركيز على ترشيد استخدام الحواسب العملاقة أكثر ذكاءً وجديد، حيث يقول: «هناك إداركٌ متزايد بأن الاعتماد على المخدمات السحابية والحواسب العملاقة قد يكون ذا أثرٍ قاسٍ جداً على البيئة»، ويضيف: «إنّ استخدام الخوادم الخضراء الصديقة للبيئة فكرةٌ رائعة، كما أننا في وضعٍ جيد للضغط على مستخدمي الحواسب العملاقة لترشيد استعمالها». ويشير «باسكال إلهي»، عالم الفلك في جامعة أستراليا الغربية، ومؤلف مشارك في التقرير الجديد، إلى أنّ هذه النتيجة كانت مفاجئةً خصوصاً أنه وزملائه توقعوا أن تكون الرحلات الجوية سبباً لمعظم انبعاثات غاز الكربون التي يتسببون بها.
ثانياً: يشير الباحثون إلى أنّ هناك عدداً هائلاً من الرحلات الجوية، خصوصاً الدولية، التي يقوم بها علماء الفلك لحضور المؤتمرات، والمشاركة في اجتماعات اللجان، والقيام بزياراتٍ ميدانية للمراصد في المواقع البعيدة، لكن ذلك لا ينطبق عموماً على جميع علماء الفلك بالتساوي. حيث ينتج عالم الفلك البارز النموذجي حوالي 70% أكثر من ثاني أكسيد الكربون لقيامه برحلات الطيران، مقارنةً بمتوسط ما ينتجه عالم الفلك الذي يحمل شهادة ما بعد الدكتوراه (درجة علمية لصغار العلماء الذين يحملون شهادة الدكتوراه)، وأكثر بثلاثة أضعاف ما ينتج عن نشاط طالب الدكتوراه. يحثّ الباحثون جميع علماء الفلك، خاصة كبار الفلكيين، على التساؤل عما إذا كانوا بحاجة فعلاً لحضور هذه التجمعات شخصياً.
وقد تردد صدى هذه النصيحة في التوصيات التي سيقدّمها لوينثال وينوي إرسالها إلى مؤتمر الجمعية الفلكية الأميركي ووضعها في التنفيذ، حيث يخطط لوينثال -الذي شغل منصب نائب رئيس الجمعية حتى وقتٍ قريب-، لمشاهدة الإجراءات من بعيد، والمشاركة في جلستين في المؤتمر عبر الفيديو. يقول: «أعرف أنّه سيكون اجتماعاً مهماً وجيداً بالفعل، وأشعر بالأسف لعدم حضوره، لكني في الحقيقة لست آسفاً للبقاء في المنزل، وعدم التسبب بزيادة انبعاثات غاز الكربون بسبب السعي لحضور المؤتمر والعودة مجدداً».
يدرك لوينثال أن تحويل علم الفلك إلى علمٍ مُستدام لن يؤثر ذلك التأثير الكبير في مسار أزمة التغير المناخي لوحده، لكنّه يشدد على أنه يجب على الأكاديميين وعلماء الفلك التصرّف بمسؤولية، وأن يكون قدوة لغيرهم، واستخدام معرفتهم ومنصّاتهم لإظهار ما ينبغي أن يكون عليه العالم والأكاديمي. ويأمل لوينثال كذلك أن تحذو التخصصات الأخرى حذو العلماء الفلكيين أيضاً.
يقول لوينثال: «الشيء المهم هو أن نظهر للناس أن الاهتمام بالبيئة أمرٌ طبيعي وأن نفعل شيئاً مفيداً لها، وأنه ليس من الطبيعي أن تغض الطرف وتتجاهل المشكلة، يجب أن نشجّع بعضنا البعض على القيام بذلك بإظهار ذلك في أفعالنا، فتأثير الأقران على الآخرين من أكثر الأمور تأثيراً على حد علمنا».