كانت النجوم تتألق في ظلمة الليل الحالك خلال معظم مراحل التاريخ البشري. ولكن بدءاً من الثورة الصناعية وانتشار استخدام الإضاءة الاصطناعية في المدن والبلدات، بدأت النجوم بالاختفاء شيئاً فشيئاً.
نحن عالما فلك نعتمد في إجراء بحوثنا على سماء الليل المظلمة. لقد سعى علماء الفلك منذ عقود لبناء التلسكوبات في أحلك الأماكن على الأرض لتجنب التلوث الضوئي.
أضواء دون مبرر في سماء الليل
تعيش الغالبية العظمى من الناس اليوم في مدن أو ضواحٍ تنبعث منها الأضواء دون مبرر في سماء الليل، ما يحد من رؤية النجوم إلى حد كبير. بينما تشير بيانات الأقمار الصناعية إلى أن مستويات التلوث الضوئي في أميركا الشمالية وأوروبا ظلت مستقرة أو انخفضت بشكل طفيف خلال العقد الماضي، شهدت أجزاء أخرى من العالم، مثل إفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية، زيادة في هذه المستويات. ولكن نظراً لأن الأقمار الصناعية غير قادرة على اكتشاف الضوء الأزرق المنبعث من مصابيح "الليد" (LED)، التي تُستخدم عادة للإضاءة الخارجية، فقد يكون مستوى التلوث الضوئي أعلى مما تشير إليه التقديرات الحالية.
اقرأ أيضاً: كيف يؤثر التلوث الضوئي وغياب سماء الليل على كوكب الأرض؟
يهدف مشروع علمي دولي للعلماء المواطنين (غير المختصين)، يُدعى "غلوب أت نايت" (Globe at Night)، إلى قياس كيفية تغير نظرة الناس العاديين إلى السماء ليلاً بمرور الوقت.
قياس التلوث الضوئي بمرور الوقت
يسهّل الاعتماد على العلماء المواطنين إجراء عدة قياسات للسماء ليلاً بمرور الوقت من عدة أماكن مختلفة.
لتزويد المشروع بالبيانات، يقوم المتطوعون بإدخال التاريخ والوقت وموقعهم وظروف الطقس المحلية في صفحة إبلاغ عبر الإنترنت في أي وقت بعد ساعة أو أكثر من غروب الشمس في ليالٍ محددة كل شهر. عند الوصول إلى الصفحة، تظهر 8 لوحات تعرض كل منها كوكبة مرئية خلال ذلك الوقت من العام، على سبيل المثال، كوكبة الجبّار التي عادة ما تكون مرئية في يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط. تُظهر اللوحة الأولى، التي تمثل سماء الليل الملوثة بالضوء، النجوم القليلة الأكثر سطوعاً فقط. وتعرض كل لوحة لاحقة بشكل تدريجي عدداً أكبر من نجومٍ أكثر خفوتاً، وتمثل سماءً أغمق لوناً وأكثر قتامة. ثم يقوم المشاركون بتحديد اللوحة التي تتوافق بشكل وثيق مع ملاحظتهم للسماء ليلاً.
أطلق فريق مشروع "غلوب أت نايت" صفحة الإبلاغ كتطبيق عبر الإنترنت في عام 2011، مع بداية الاعتماد الواسع على مصابيح الليد. في تقرير حديث، استبعد الفريق نقاط البيانات التي جُمعت خلال الشفق، وعندما كان القمر ظاهراً، أو عندما كان الطقس غائماً أو لأي سبب آخر قد يشير إلى عدم موثوقية البيانات. بعد عملية التصفية هذه، بقي نحو 51 ألف نقطة بيانات، جُمع معظمها من أميركا الشمالية وأوروبا.
اقرأ أيضاً: هل ستختفي النجوم فعلاً بعد 18 عاماً؟ وما السبب وراء ذلك؟
تُظهر البيانات أن سماء الليل أصبحت أكثر سطوعاً بنسبة 9.6% سنوياً في المتوسط. أي أن سطوع سماء الليل اليوم تضاعف عما كان عليه الحال قبل 8 سنوات تقريباً بالنسبة للكثيرين. كلما كانت السماء أكثر سطوعاً، قل عدد النجوم التي يمكن رؤيتها.
فإذا استمر اتجاه زيادة التلوث الضوئي، فإن الطفل الذي يولد اليوم في مكان يمكنه فيه رؤية 250 نجماً حالياً في سماء الليل لن يكون قادراً على رؤية سوى 100 نجمٍ فقط في عيد ميلاده الثامن عشر.
الأسباب والآثار والحلول
السبب الرئيسي وراء زيادة سطوع سماء الليل هو النمو الحضري والاستخدام المتزايد لمصابيح الإضاءة الخارجية (الليد).
تهدد خسارة السماء المظلمة، والناجمة عن التلوث الضوئي وزيادة الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض، قدرتنا كعلماء فلك على إجراء أبحاث جيدة. لكن الناس يشعرون بهذه الخسارة أيضاً يوماً بعد يوم، لأن فقدان السماء المظلمة يشكل خسارة للتراث الثقافي الإنساني، حيث كانت سماء الليل المرصعة بالنجوم مصدر إلهام للفنانين والكتّاب والموسيقيين والفلاسفة لآلاف السنين. وبالنسبة للكثيرين، فإن الشعور بالرهبة والخشوع عند النظر إلى السماء المليئة بالنجوم لا يمكن تعويضه.
يتداخل التلوث الضوئي مع الدورة اليومية للضوء والظلام التي تستخدمها النباتات والحيوانات لتنظيم النوم والتغذية والتكاثر. وبالإضافة إلى ذلك، يؤثر التلوث الضوئي في ثلثي مناطق التنوع البيولوجي الرئيسية في العالم.
يمكن للأفراد ومجتمعاتهم الحد من التلوث الضوئي من خلال تغييرات بسيطة. المفتاح هو استخدام كمية الضوء المناسبة في المكان الصحيح وفي الوقت المناسب. من المفيد في هذا الصدد استخدام تركيبات الإضاءة الخارجية التي توجه الضوء لأسفل، واستخدام المصابيح التي تصدر ضوءاً أصفر اللون بدلاً من الضوء الأبيض، وبالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون وضع الأضواء على أجهزة ضبط الوقت أو مستشعرات الحركة مفيداً في تقليل التلوث الضوئي.
إذا وجدت نفسك في مكان بعيد عن المدينة أو أي مصدر للتلوث الضوئي، فخذ لحظة للتحديق في سماء الليل. ستتمكن من رؤية ما يقرب من 2,500 نجماً بالعين المجردة، وقد تساعدك هذه التجربة في إدراك أن السماء المظلمة هي مورد يستحق الإنقاذ.