يبدو الأمر وكأنه دوامة مستمرة، تصدر ناسا بياناً صحافياً تقول فيه إن أنباءً جديدة عن المريخ ستصدر قريباً في مؤتمر صحافي. ثم، يأتي الإعلان النهائي محيراً ومثيراً للفضول، ولكنه لا يتطرق بأي شكل من الأشكال للحديث عن اكتشاف حياة فعلية على سطح المريخ الذي نعرفه.
هذا ما آلت إليه الأمور مؤخراً، مع الإعلان الذي صدر الشهر الماضي عن اكتشاف مواد عضوية قديمة على سطح المريخ، وتقلبات مستويات الميثان في غلافه الجوي. غالباً ما يتم إنتاج الميثان عبر عمليات بيولوجية، وبالتالي فإن الانبعاثات الموسمية على المريخ قد تمثل علامة على أن هناك شيئاً ما يجدد باستمرار الموارد الجوفية لتلك المركبات الهيدروكربونية .
ولكن مرة أخرى، لم يتم اكتشاف الحياة على المريخ. ولن نشهد ناسا تعلن عن اكتشاف الحياة على المريخ في أي وقت قريب. ليس الأمر أن ناسا غير مكترثة، بل لأن هناك حقيقة بسيطة: لم يكن لأي من هذه البعثات القدرة على اكتشاف الحياة بشكل مباشر، سواء كانت في الماضي أو قائمة في الوقت الحاضر.
الحياة على المريخ
إنه أحد أيام يونيو المشرقة والحارة في مهرجان إنتربلانيتاري للفضاء الخارجي في سانتا فيه. يعمل مختبر لوس ألاموس الوطني على تبخير الصخر للمارة. على المنصة، تتحدث نينا لانزا عن المريخ، وهي عالمة تعمل لصالح المختبر.
تقول لانزا: "هناك كميات من غاز الميثان في الغلاف الجوي على المريخ حالياً". وتضيف: "وهي ليست متواجدة بكميات ثابتة، بل هي نفثات صغيرة تبدو وكأنها موسمية". وتقول لانزا إن الميثان على كوكب الأرض مصدره البراكين والكائنات الحية، وتتابع: "لا يدوم المثيان وقت طويلاً، فهو يبقى في الجو في حدود مائة سنة... لذلك عندما نرى الميثان على المريخ، فنحن نعلم أن شيئاً يطلقه الآن".
تقول لانزا: "لا تقولوا إنكم سمعتمتوني أقول بأن هناك حياة على المريخ، فنحن مازلنا نعمل على ذلك، ولكنها ملاحظة هامة بالنسبة لنا لكي نتتبعها نظراً لدلالاتها".
لانزا هي أحد أفراد الفريق المسؤول عن الأداة المركبة كيم-كام العاملة على متن العربة المتجولة كيوريوسيتي، والتي تستكشف حالياً قاع البحيرة القديمة التي كانت تقبع في فوهة جيل. يتألف النظام من عنصرين: جهاز ليزر ومنظار طيفي. يقوم الليزر بتبخير عينات الصخور، في حين يبحث المنظار الطيفي عن الآثار الدالة لعناصر معينة ضمن رواسب التبخير.
تحدثت لانزا لمجلة بوبيولار ساينس بعد فقرتها الحوارية قائلة: "يمكننا في الواقع معرفة الذرات المكونة للجزيئات، وبالتالي يمكننا أن نعرف ما إذا كان هناك كربون، أو هيدروجين، أو فوسفور، أو حتى نيتروجين. يمكننا معرفة كل هذه الأشياء". وهي تستخدم اختصاراً للمركبات المستهدفة باللغة الإنجليزية يسهل استخدامه: CHyN OPS (ويلفظ "تشين أبس")، وهو يعني، كربون، هيدروجين، نيتروجين، أوكسجين، فوسفور، وكبريت.
إن كلاً من هذه العناصر له دور مساعد في ازدهار الحياة على الأرض، ولكن كيم-كام لا يمكنها أن تعرف كيف يتفاعل كل عنصر منها على حدة لتشكيل الجزيئات. وبالتالي يمكنها أن تكشف الهيدروجين وتكشف الكربون، ولكن لا يمكنها معرفة ما إذا ارتبطت ذراتهما معاً أم لا.
هذا يعني أيضاً أن كيم-كام يمكنها أن تبحث فقط عن المكونات الأساسية للحياة. لا يمكنها أن تؤكد ما إذا كانت الحياة موجودة حالياً أو كانت موجودة فيما مضى على المريخ، على الرغم من أن البيئة المحيطة بكيوريوسيتي كانت مثالية لازدهار الحياة في مرحلة ما سابقاً.
تقول لانزا: "فوهة جيل عبارة عن بيئة كانت فيما مضى صالحة للحياة بالتأكيد، ولكننا لا نعلم ما إذا كانت مأهولة أم لا". من غير المرجح – رغم أنه ليس مستحيلاً – أن يوجد أي شيء اليوم، ولكن ربما كان موجوداً في الماضي البعيد.
لحسن الحظ، فإن قدرات ناسا على الكوكب الأحمر على وشك أن تشهد توسعاً. حيث ستحظى العربة المتجولة مارس 2020 بنسخة جديدة بالكامل ومعززة من الأداة كيم-كام تسمى سوبر-كام. ففي حين يمكن لكيم-كام أن تلتقط العناصر، فإن سوبر-كام ستلتقط الآثار الحاسمة للجزيئات في موقع هبوطها النهائي.
هذا يعني أنها ستكون قادرة على تحديد المواد العضوية الأكثر تعقيداً بدلاً من تحديد العناصر بشكل منفرد. باستخدام التحليل الطيفي المستحث بالليزر (LIBS)، ستتمكن من تزويد كيوريوسيتي بالمعلومات عن الصخور حتى لو لم يتم تبخيرها بعد.
والأمر الآخر الرائع أيضاً، هو أنها ستكون مزودة بميكروفون.
تقول لانزا: "لن نكون قادرين على الإصغاء إلى أصوات الكائنات المريخية فحسب، بل سنتمكن في الواقع من الحصول على معلومات تتعلق بالهدف من خلال الأصوات التي تحدثها الموجات الصادرة عن LIBS".
تتابع لانزا: "عندما تطلق أشعة الليزر، فإنها تحدث ما يشبه دوي البندقية". فهي تصدر صوت فرقعة، حيث يتغير الصوت وفقاً لنوعية المادة وما إذا كنت تخترق طبقة صخرية. في الواقع، سيسمح لنا هذا بتفسير بياناتنا بشكل أفضل".
ناسا ليست وحدها في سعيها وراء دراسة علم الأحياء خارج كوكبنا. فقد تعاونت أيضاً وكالة الفضاء الأوروبية مع وكالة الفضاء الروسية روسكوزموس، على إنجاز البعثة إكسو مارس. حيث تمكن نصف البعثة من الوصول إلى المريخ حتى اليوم، على الرغم من إخفاق مركبة الإنزال شياباريللي. ومن المقرر إطلاق النصف الآخر من البعثة في يوليو من العام 2020. في الواقع، ستتولى هذه العربة المتجولة البحث عميقاً في سطح المريخ، وجمع العينات، واختبارها بحثاً عن أدلة على وجود مواد عضوية متطورة، وبالتالي التوقف عن الاكتفاء فقط بتأكيد وجود الحياة في الماضي، والقيام بخطوات أكبر من أي وقت مضى.
ستقوم مارس 2020 بجمع عينات من سطح المريخ، ولكنها ستحفظها على متنها لاسترجاعها في المستقبل. لا شك أن تقدم المشاريع المستقبلية لناسا على المريخ إلى ما يتجاوز العربة 2020 لا يزال غامضاً، ولكن ناسا تستهدف وضع البشر على المريخ بحلول العقد الثالث من القرن الحالي.
بمجرد أن تطأ أقدام البشر سطح المريخ، عندها يمكن تأكيد الحقبة الزمنية للحياة هناك سواء كانت ماضية أو حاضرة بسرعة أكبر. كما تقول لانزا: "مازلت عالمة جيولوجية أفضل من كيوريوسيتي".
حيث باستطاعة البشر أن يشغلوا المجهر أو المختبر، وإنجاز تجارب أكثر تطوراً من العربات المتجولة والتي تعاني حالياً من قصور في مدى الاتصال بسبب تأخر الاتصالات مع الأرض بما يكافئ من 6 إلى 24 دقيقة ضوئية.
ولكن، هناك بالطبع عنصر آخر ضمن بعثات المريخ، يتعدى العربات المتجولة، ومركبات الإنزال، والمستكشفين النظريين من البشر. إنها المركبة المدارية.
عين في السماء
في حين قد تكون كيوريوسيتي حفرت بحثاً عن أدلة على وجود بحيرة قديمة على سطح المريخ، فإن جزءاً كبيراً من العمل الشاق الذي يبذل للعثور على الماء على المريخ (مراراً وتكراراً) قد تم توكيله إلى أسطول مكون من بضع مركبات مدراية. قد تكون العربة المتجولة قادرة فقط على استكشاف جزء صغير من المريخ طوال عمرها التشغيلي، ولكن المركبات المدارية يقدم رؤية شاملة لكافة أرجاء الكوكب كل يوم. في الوقت الحالي، هناك عدد قليل من المركبات المدارية تدور حول المريخ، ولكن اثنتين منها تقومان بمعظم حركات الاستطلاع البصري: مارس ريكونيسانس أوربيتر من ناسا (إم آر أو)، و مارس إكسبرس من وكالة الفضاء الأوروبية.
تقول تانيا هاريسون، مديرة البحوث ضمن مبادرة نيو سبيس التابعة لجامعة ولاية أريزونا في رسالة مباشرة لها على تويتر: "بوجود شيء مثل إم آر أو، لا يتسنى لنا في الواقع أن نرى أي شي أصغر من حجم العربات المتجولة على سطح الكوكب مع دقة الكاميرات التي لدينا". وتتابع هاريسون: "ولذلك لو كان هناك سيارات فضائية أو أبنية فضائية على سطح المريخ، لكنا رأيناها الآن بالتأكيد".
مضى على انطلاق كل من المركبتين الفضائيتين مارس إكسبرس وإم آر أو أكثر من 15 عاماً، ولو كان هناك مركبة مدارية جديدة بقدرات أفضل، فقد تتمكن من تقديم تفاصيل أكثر عن أعمدة الميثان المتصاعدة، وقد تتمكن حتى من رؤيتها بشكل مباشر. إن أداة الاختبار العلمية بالتصوير عالي الاستبانة "هايرايس (HiRISE)" – والتي تمثل عين إم آر أو القابعة في السماء – ليست حساسة بما يكفي لتحديد أصل الميثان. لذلك، سيتعين عندها وجود الكثير من الميثان المنبعث في الغلاف الجوي للمريخ.
تقول هاريسون: "إم أر أو ليست مجهزة للكشف عن غاز الميثان، ولكن مارس إكسبرس تمتلك أداة كان بمقدورها الكشف عنه باستخدام مقياس طيفي". تتابع هاريسون: "لكي تراه بشكل مرئي، يتعين على الميثان أن يتصاعد بمستويات مماثلة لما تنفثه الفوهات البركانية هنا على الأرض. فكر بها كما لو أنها الأعمدة التي تراها في النوافير الطبيعية الحارة، والينابيع الحارة في يلوستون أو آيسلندا".
تقترح إحدى الأفكار إرسال بعثة تتعامل مع استكشاف المريخ وكأنه لعبة لالتقاط الكرة. حيث تقوم مركبة إنزال أو عربة متجولة بجمع العينات وإرسالها إلى المدار على متن صاروخ صغير. ثم تقوم المركبة المدارية بعد ذلك بجلب تلك العبوات لعينات المريخ وحفظها للعودة بها في نهاية المطاف إلى الارض. توفر هذه المركبة المدارية التخيلية فرصة مثيرة للاهتمام لتأكيد وجود الحياة على المريخ كما لم يحدث من قبل مع أخذ عينات مباشرة.
تقول لانزا: "باستخدام مجهر إلكتروني قد تتمكن في الواقع من رؤية تشكيلات بنيوية تشبه الميكروبات، ولكننا لا نملك هذه الأداة على المريخ". وتضيف: "لدينا أجهزة للتصوير الميكروي الدقيق، ولكنها ليست عالية الدقة.
يمكننا القول إن هناك أدلة يدعمها علم المعادن، ويدعمها علم الكيمياء، وهناك جزيئات عضوية، حيث يمكنك نسج قصة جيدة للغاية مبنية على هذه القرائن، وأعتقد أنها منطقية. ولكن تقديم ادعاءٍ استثنائياً، يتطلب تقديم أدلةٍ استثنائية".
وإلى أن يأتي اليوم الذي يتحقق فيه ذلك، إياك أن تصدق الادعاءات المبالغ فيها.