الأرض هي واحة هادئة ومستقرة في كون مليء بالأحداث الجامحة، وقليلة هي الأجسام الأكثر جموحاً من النجوم النيوترونية. تتشكل هذه الأجسام عندما تموت النجوم التي لها كتل معينة، وتنهار ألبابها على نفسها مجمّعة مادة تعادل كتلتها ضعف كتلة شمسنا في حيّز لا يتجاوز حجم مدينة واحدة. داخل هذه النجوم، فإن الذرات كما نعرفها تنعدم من الوجود. إذ تسحقها الجاذبية الهائلة حتى لا يتبقى سوى النيترونات. وإذا ازدادت كتلتها أكثر، فقد تتحول إلى ثقوب سوداء.
تقول «جوسلين ريد»، وهي عالمة فيزياء فلكية في جامعة كاليفورنيا ستيت في فوليرتون: «النجوم النيوترونية هي أماكن يتغيّر فيها شكل المادة تحت تأثير قوة الجاذبية الهائلة».
بالرغم من أن الفلكيون قادرون على رصد النجوم النيوترونية بعدة طرق، إلا أن ما يجري داخلها غير مفهوم بشكلٍ جيد بعد. لكن بعد سنوات من الأبحاث، تشير كل من الأرصاد الجديدة والتطورات في الدراسات النظرية إلى أننا قد نضطر إلى تغيير الطريقة التي نفكر فيها بالنجوم النيوترونية بالكامل. إذ بيّن بحث نُشر في دورية «نيتشر» يوم 1 يونيو/ حزيران الماضي، أنه بدلاً من التفكير بهذه الأجسام على أنها كرات صلبة من النيوترونات، فهي تشابه إلى حد ما الـ «توتسي بوب» (وهو نوع من الحلوى)، وذلك لأن هذه النجوم قد تتألف بالحقيقة من قشر نيوترونية «هشة» تغلّف مادة «لزجة» تسمى «المادة الكواركية».
تمكن الباحثون سابقاً من خلق هذا النوع من المادة من خلال تصادمات الجسيمات العنيفة، لكن قدرة النجوم النيوترونية على خلقها كان محل جدل لفترة طويلة. إذا كان استنتاج الفريق صحيحاً، فإنه سيساعد الباحثين في فهم كيفية تصرف البروتونات والنيترونات تحت الضغط، كما أنه سيزيد على فهمنا لكيفية وصول العناصر الثقيلة إلى الأرض.
يقول «أليكسي كوركيلا»، مؤلف مشارك في البحث وعالم في فيزياء الجسيمات في سيرن: «لقد وجدنا إشارات لوجود المادة الكواركية داخل النجوم النيوترونية، وهذا أمر مثير بحق». تساعدنا النجوم النيوترونية في اختبار نظرياتنا حول سلوك المادة تحت أعنف الظروف.
تميل البروتونات والنيترونات لأن ترتد عن بعضها مثل كرات البلياردو ضمن تجارب التصادمات منخفضة الطاقة (وبالتالي منخفضة كثافة المادة). لكن تحت ظروف متطرفة أكثر -حيث تصل كثافة المادة إلى مئات ملايين الأطنان/ سنتيمتر مكعب- فإن البروتونات والنيترونات ترتبط معاً مشكلة وحدات بنائية صلبة.
يعلم الفيزيائيون ما يحصل تحت ظروف متطرفة من كثافة المادة. ففي التصادمات عالية الطاقة، «تتفكك» البروتونات والنيترونات إلى الجسيمات التي تُشكّلها، وهي الكواركات والجلوونات، والتي تنبثق معاً مشكلة ما يدعى بـ «بلازما الكوارك - جلوون»، وهي أحد أشكال المادة الكواركية.
ولكن يبقى ما يحدث للنيترونات والبروتونات في الظروف المتوسطة بين عالية ومنخفضة الطاقة غير معروف لحد الآن. مع ذلك، فقد تساعدنا النجوم النيوترونية في هذا، وذلك لأن كثافة المادة فيها ليست مرتفعة للغاية ولا منخفضة كثيراً، مما دفع الفيزيائيين إلى إمضاء عقود في محاولة فهم ما يحدث داخلها: هل تبقى النيترونات صلبة، أم تتفكك وتطلق الكواركات؟ (عندما يتحدّث الفيزيائيون عن النجوم النيوترونية، فإن الكلمات المألوفة تأخذ معاني جديدة ونسبية للغاية. فحتى أخفّ وأبرد وأكثر النجوم النيوترونية رخاوة هي أكثف وأسخن وأقسى من أي شيء على الأرض).
يعتقد كوركيلا وزملاؤه أن بحوزتهم ما يكفي من المعلومات للإجابة عن هذه الأسئلة. إن الهدف الأهم لدراسة النجوم النيوترونية هو تحديد كمية المادة التي تصدّها بالضبط، وذلك عند أي كثافة أو درجة حرارة. أي بكلمات أخرى، قياس «قساوة» النيترونات. أخذ الباحثون بعين الاعتبار أكثر من نصف مليون نموذج ممكن، واستخدموا طيفاً واسعاً من الأرصاد لاختبارهم.
من ناحية، رصد الفلكيون نجوماً نيوترونية ثقيلة تعادل كتلها حوالي ضعف كتلة الشمس، مما يقتضي امتلاكها درجة من «القساوة» تسمح لها بأن تحمل هذه الكتلة. ومن ناحية أخرى، رصد الباحثون الأمواج التثاقلية الناتجة عن تصادم نجوم نيوترونية تعادل كتلة كل واحد منها حوالي 1.5 من كتلة الشمس.
عن طريق رصد الطريقة التي تسبب فيها القوى التثاقلية «انتفاخ» النجوم عندما تقترب من بعضها، يمكن للفيزيائيين تحصيل معلومات أكثر عن أحجام هذه النجوم وقساوتها. كما استخدم الباحثون في الفريق نظرية الكواركات والجلوونات ليتنبأوا بسرعة الصوت داخل النجوم النيوترونية، وهو مقياس آخر لمدى قساوتها.
أفضت النماذج التي اجتازت الاختبارات إلى إجابة واضحة: تتشكل النجوم النيوترونية الأصغر حجماً في الغالب من نيترونات فقط. لكن تلك الأكبر حجماً -والتي تقترب من أن تكون ثقوباً سوداء- يجب أن تحتوي شكلاً من أشكال المادة الكواركية داخلها. يقول كوركيلا: «إذا كانت تبدو كمادة كواركية، فعلى الأغلب أنها مادة كواركية».
مدح فيزيائيون آخرون عمل فريق كوركيلا. فقال «فيليبي لاندري»، وهو باحث في الأمواج التثاقلية في جامعة كاليفورنيا ستيت في فوليرتون: «هذه هي أول ورقة بحثية تنظر إلى موضوع النجوم النيوترونية بهذه الطريقة، وتدّعي بجرأة أن اللّب من المادة الكواركية موجود بالفعل. تدفع هذه الورقة فهمنا قدماً، وتجربنا على تقييم الأفكار التي كنا متأكدين منها».
لكن لا ندري ليس مقتنعاً تماماً بأن الورقة البحثية الجديدة تحسم النقاش حول النجوم النيوترونية. إذ أنه أكمل مؤخراً برفقة زملائه تحليلاً يضيف بعض الأرصاد من محطة الفضاء الدولية تبين أن سرعة الصوت داخل النجوم النيوترونية أكبر من تلك التي قاسها كوركيلا وفريقه، مما قد يجعل فرضية اللّب المصنوع من المادة الكواركية أقل ترجيحاً.
في المستقبل، ستستمر الأرصاد الجديدة للنجوم النيوترونية في زيادة دقة تحليلات مثل هذا الأخير. وسيكون للنظريات المحسّنة حول النجوم النيوترونية تأثيرات بعيدة المدى، حتى على أشكال مختلفة من المادة مثل الموجودة على الأرض. تتشكل العناصر المألوفة مثل الذهب والبلاتين داخل تصادمات النجوم النيوترونية، وهي نظرية أثبتت عن طريق رصد الأمواج التثاقلية الناتجة عن تصادم بين نجمين نيوترونيين التقطته أيضاً التلسكوبات في 2017.
إذا كنت ترتدي المجوهرات الثمينة، فاعلم أن معظم الذرات التي تشكلها تكونت في تصادم مثل هذا الأخير، وأن الكواركات داخل هذه الذرات عاشت من قبل في ألباب النجوم النيوترونية. لكن كما يقول لاندي، فإن تحديد فيما إذا كان مصدر أي من هذه الذرات هو حدث تصادمي أو شيء آخر، يعتمد على طبيعة اللّب.