قبل أن يصبح امتلاك السيارة أمراً شائعاً، كانت الطرقات والطرق السريعة (والتي كانت قليلة العدد آنذاك) خالية من الازدحام. ولكن بعد أن بدأ الجميع بشراء وقيادة سياراتهم الخاصة، إلى العمل والمدرسة والمتجر القريب، أصبحت الشوارع مزدحمة، وأصبحت ساعة الذروة حدثاً يومياً، وأصبحت حوادث السيارات أمراً لا مفر منه.
وعلى الرغم من أن الفضاء شاسع الاتساع، فقد يتعرض لوضع مماثل. ويقول العلماء أن الاصطدامات الخطيرة أصبحت أمراً متوقعاً، خصوصاً بعد إرسال العديد من الأجسام الطائرة إلى الفضاء. وتحاول مجموعة من العلماء في مختبر لوس ألاموس الوطني في نيو مكسيكو حل هذه المشكلة بطريقة شائعة الاستخدام في عالم السيارات، غير أنها غير موجودة حالياً في المركبات الفضائية: لوحات التعريف.
من غير المرجح أن نملاً الفضاء المحيط بنا بالأجسام الطائرة لدرجة حدوث ازدحام فضائي، حيث يجب على الأقمار الاصطناعية أن تبطئ من حركتها في أوقات معينة أو تتحرك ضمن ممرات فضائية خاصة بها، غير أن الفضاء، والذي يتميز بجو من الجاذبية الضعيفة والمعدومة، يشكل تحدياً خاصاً.
تتحرك معظم الأقمار الاصطناعية وغيرها من الأجسام المعقدة التي نرسلها إلى الفضاء ضمن المدار الأرضي الأدنى بشكل دائم، أي على ارتفاع ما بين 643.7 كيلومتر و 1,609.3 كيلومتر فوق سطح الأرض. وهو ارتفاع كافٍ للابتعاد عن جاذبية الأرض، ولكن ليس بشكل كامل. حيث يتيح هذا المجال للأجسام أن تدور لفترة طويلة حول الأرض بدون أية مساعدة إضافية.
غير أن العلماء استثمروا هذه المنطقة ذات المواصفات الممتازة على مدى الأعوام الستين الماضية، ما يعني بدء تراكم الحطام والنفايات، إضافة إلى كمية إضافية في طريقها للتراكم. وقد بلغ عدد الأقمار الاصطناعية العاملة التي تدور حول الأرض في 2015 أكثر من 1,300، ناهيك عن الأقمار خارج الخدمة، والصواريخ القديمة وغيرها من الخردوات الفضائية المعطلة، والتي ستدور في المدار الأرضي الأدنى إلى ما لانهاية.
من المرجح أن يزداد هذا العدد بشكل متسارع، بسبب ظهور "كيوبسات"، وهي مركبات فضائية صغيرة يمكن إرسالها إلى الفضاء بالمئات، إضافة إلى العديد من الشركات التي تخطط لوضع أقمار اصطناعية في المدار الأرضي الأدنى لتأمين الاتصال بالإنترنت، يا له من زحام.
ولكن، هل تطوف كل هذه الأشياء في الفضاء وكأنها لعبة عملاقة لسيارات التصادم في مدينة الملاهي؟ يقول ديفيد بالمر، وهو أخصائي بالفيزياء الفضائية في لوس ألاموس، أن الوضع أبعد ما يكون عن هذا. صحيح أنه لم يحدث تصادم فضائي ذو أهمية سوى مرتين فقط، ولكن وفقاً لبالمر، يكفي تصادم واحد لإطلاق كارثة حقيقية.
يقول بالمر: "تكمن المشكلة في أن تصادماً واحداً يمكن أن يولد الكثير من الحطام، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تصادمات إضافية. وفي النهاية ينتج لدينا ما يسمى أثر كيسلر". ويستمر الحطام بالتزايد مع كل تصادم جديد، بحيث يزداد عدد التصادمات إلى ما لانهاية. وإذا بدأ هذا الأمر يحدث بشكل منتظم، فمن المحتمل أن يزداد الحطام الفضائي لدرجة أن يصبح الفضاء غير آمن.
يقول بالمر: "لقد وصلنا إلى ما قبل حد الخطر بقليل. وما أن نتجاوز هذا الحد، قد يتفاقم الوضع لمدة عقد أو اثنين حتى يمتلئ المدار الأرضي الأدنى بالحطام". وعندها، يصبح احتمال حدوث تصادم (وأثر كيسلر الذي يتبعه) مرتفعاً جداً لدرجة أن مخاطر إرسال قمر اصطناعي آخر إلى المدار الأرضي الأدنى ستصبح أكثر من الفوائد.
تظهر المشاكل الفعلية عندما تخرج الأقمار الاصطناعية من الخدمة، فأغلبها مزود بأنظمة تحديد المواضع والتي يمكن أن يستخدمها العلماء لتحديد أماكن هذه الأقمار باستخدام الأمواج الراديوية. ولكن عندما تخرج من الخدمة، تتوقف هذه الأمواج. وتدور الخردة الفضائية حول الأرض بغير توجيه ولا مراقبة، ولفترة غير محددة. وإذا بدا أن أحد الأقمار الاصطناعية العاملة على وشك الاصطدام بها، يمكن للجهة التي تشرف على القمر أن تغير من اتجاهه لتفادي التصادم. ولكن ما أن نصل إلى مرحلة التصادمات المستمرة بين كتل مختلفة من الحطام الفضائي، لا يمكن للباحثين أن يغيروا من اتجاه أي شيء بدون إذن من المالكين، ولمعرفة الجهة التي يتبع لها الحطام الفضائي، يجب تحديد ماهيته أولاً.
يقول بالمر: "يجب أن تحصل على إذن من مالك القمر الاصطناعي، حتى لو كان هذا القمر قطعة من الخردة عمرها 30 سنة"، علينا إيجاد طريقة أخرى، أي نظام تعريف مضمون؛ وهي وجهة نظر بالمر.
استوحى بالمر الفكرة من أحد أبحاثه في دراسة النجوم النابضة، وهي أجسام فضائية كبيرة تدور وتصدر إشعاعات ضوئية في اتجاهات متعاكسة. وأثناء دورانها، تظهر أشعتها وكأنها تومض، وقد بذل العلماء من أمثال بالمر الكثير من الجهد في دراسة هذا الوميض. يقول بالمر: "لقد جمعت الفكرتين معاً، وذلك ببناء قمر اصطناعي قادر على إنتاج نبضات ضوئية دورية. ومن ثم يمكننا وضع نظام تعريف دقيق عن طريق قراءة هذه الإشارة".
وبالتالي، قام بالمر وفريقه بتطوير أداة صغيرة تستهلك قدراً ضئيلاً للغاية من الطاقة، وتصدر نمطاً مميزاً من النبضات الليزرية. وأطلقوا على هذه الآلة اسم المعرف البصري ذي الاستهلاك المنخفض للغاية، أو اختصاراً: "إيلروي" ELROI، وبشكل أقل رسمية، لوحة التعريف الفضائية.
يسعى الباحثون لتصميم هذه الأجهزة بحيث تكون على شكل مربع لا يتجاوز طول ضلعه 2.54 سنتيمتر، ويمكن تثبيتها فوق أي قمر اصطناعي سيرسل إلى الفضاء. وستقوم هذه الأداة بإطلاق سلسلة من النبضات الليزرية الحمراء السريعة باستخدام ديود ليزري (نجده في أغلب الليزرات المستخدمة يومياً). ستكون هذه الومضات ساطعة للغاية (بسطوع مصباح باستطاعة 60 واط، وذلك باستخدام واط واحد فقط من الطاقة)، وستقوم باستمرار بإطلاق مجموعة محددة من النبضات لفترة لا تتجاوز واحداً على مليون من الثانية. ومن ثم ستنطفئ لمدة واحد على ألف من الثانية، أي ألف ضعف من فترة العمل. يمكن لتلسكوب أرضي أن يلتقط هذا التتابع من الومضات، وبالتالي يمكن تحديد القمر الذي تصدر عنه هذه النبضات بمساعدة برنامج حاسوبي.
على الرغم من أن القمر الاصطناعي يبعد مئات الكيلومترات عن سطح الأرض، فإن الرسالة التي يبثها واضحة تماماً، كما يوضح بالمر. حيث أن الضوء صادر عن منبع ليزري، وهو بطول موجة اللون الأحمر تماماً. ويمكن لمرشح ضوئي في التلسكوب أن يمنع مرور جميع الأطوال الموجية الأخرى، ما يسمح لهذا اللون بأن يظهر بشكل واضح. أما الوميض فهو متوافق مع رقم تسلسلي ثنائي، مؤلف من المئات من الخانات الثنائية (صفر أو واحد). ويحصل كل قمر اصطناعي، تماماً مثل السيارة، على رقم تسلسلي خاص به. ويحوي الرمز على ثلاثة عناصر: نوع القمر الاصطناعي، ومالكه، ومسار مداره.
يقول بالمر أن الهدف هو تثبيت الأجهزة على الأقمار الاصطناعية واستمرارها في العمل لمدة 25 سنة على الأقل. تستخدم الأداة نسبة كبيرة من طاقة البطارية خلال الفترة القصيرة التي تبث الإشارة الضوئية فيها، ومن ثم تمضي فترة تساوي ألف ضعف من فترة العمل وهي تشحن البطارية بالطاقة الشمسية. ويقول بالمر أن الأداة قادرة على تكرار هذا العمل لحوالي 25 سنة. ويعتقد بالمر أن الأداة ستكون قادرة على العمل فقط بالاعتماد على الطاقة الشمسية لفترة طويلة للغاية حتى بعد تعطل البطارية، ولكن ليس ممكناً التأكد من هذا.
المرحلة التالية هي إجراء اختبار فعلي للنموذج الأولي، ويخطط الفريق لهذا بالتنسيق مع فريق في شركة نيو مكسيو تيك، والذين سيرسلون قمر كيوبسات إلى الفضاء في يناير المقبل. ويقول بالمر أن أقمار كيوبسات تؤمن أفضل الشروط لاختبار الأداة، فهي أقمار اصطناعية صغيرة على شكل مكعبات بطول ضلع يبلغ 10 سنتيمتر، ويمكن إرسالها إلى المدار الأرضي الأدنى، وغالباً بأعداد كبيرة، لتنفيذ بعض التجارب الصغيرة.
على الرغم من أن النموذج الأولي جاهز للاختبار، يقول بالمر أن الباحثين ما زالوا يجرون بعض التعديلات على التصميم. حالياً، تبلغ مساحة إيلروي 25.8 سنتيمتر مربع بسماكة 2.54 سنتيمتر. وفي المستقبل، يأمل الفريق بتخفيض هذه المساحة إلى ما يساوي مساحة طابع بريدي، واستخدام مواد رخيصة بحيث تكلف الأداة الواحدة أقل من 1,000 دولار. وبهذا، يمكن لمجموعة من طلاب المدارس أن ترسل إحدى هذه الأجهزة إلى المدار الأرضي الأدنى. يتميز كيوبسات أيضاً بتكلفة منخفضة، حيث يكلف بناء كيوبسات واحد 10,000 دولار فقط، ويكلف إطلاقها إلى الفضاء بضعة عشرات من الآلاف من الدولارات، ما يعني أن استخدامها متاح للشركات الخاصة الصغيرة، وطلاب الجامعات، وحتى طلاب المدارس. ويقول بالمر أنه إذا ازدادت تكلفة لوحة التعريف، سيصبح تسويقها أصعب بكثير.
بعد إطلاق كيوبسات إلى الفضاء مع لوحة التعريف، سيحاول الباحثون تحديد هوية المركبة الفضائية الصغيرة بتوجيه تلسكوب إليها وترجمة الرمز الثنائي. وإذا جرى كل شيء على ما يرام، فإن الخطوة التالية هي إجراء الاختبار على أقمار اصطناعية أكبر، وفي المحصلة، تزويد كل قمر صناعي يذهب إلى الفضاء بهذه الأداة.
يعترف بالمر أن "إيلروي" لا تعتبر حلاً مثالياً، فإذا كان لدينا قمران اصطناعيان على وشك التصادم، يجب أن تطلب الإذن من مالك القمر الصناعي المعطل قبل إزالته من المدار. وإذا لم يكن هناك ما يكفي من الوقت للوصول إلى هذا الشخص، فإن معرفة هويته قد لا تساعد على تجنب الكارثة. غير أن تحديد هوية مالكي الحطام الفضائي خطوة أولية جيدة على أي حال. وقد لا يمر وقت طويل قبل أن يبدو المدار الأرضي أقرب إلى طريق عام مزدحم منه إلى فراغ هائل الاتساع. وعندها سيتساءل الناس كم كان الطريق مفتوحاً وخالياً، قبل أن تحتاج الأقمار الاصطناعية إلى لوحات تعريف ليزرية.