عندما تمكن مرصد الموجات الثقالية بالتداخل الليزري – المعروف باسم ليغو – من الكشف لأول مرة عن الموجات الثقالية (التي كانت تصدر عن ثقب أسود مندمج يبعد عنا 1.3 مليار سنة ضوئية)، احتفل مهووسو العلم في كافة أنحاء العالم بهذا الاكتشاف.
تمكن ليغو بضربة واحدة من إثبات وجود الموجات الثقالية، حيث رصد بشكل مباشر ثقوباً سوداء لأول مرة، وأيّد نظرية آينشتاين عن النسبية العامة. حيث نجح ليغو حالياً وللمرة الثالثة له، في التقاط حادثة اندماجٍ لثقبٍ أسود، ليثبت أن ما تحقق إضافة إلى اكتشافه الريادي المبتكر، هو أن المرصد بحد ذاته يتحول إلى مرصد مخصص للثقوب السوداء: حيث تبرهن النتائج الأخيرة على وجود فئة جديدة من الثقوب السوداء، وتضيف أحجية جديدة إلى التساؤلات المتعلقة بكيفية تشكل هذه الأنظمة.
يقول ديفيد شوميكر:
"نحن ننتقل في الحقيقة من مرحلة الاكتشافات المبتكرة إلى مرحلة أصبح فيها لدينا نسخة جديدة من علم الرصد، نسخة جديدة من علم فلك الموجات الثقالية".
قام اثنان من الثقوب السوداء، يشكلان نظاماً ثنائي النجم يعادل في وزنه 50 ضعفاً من وزن شمسنا تقريباً؛ بالالتفاف حول بعضهما البعض بشكل لولبي، حيث تسارع دورانهما أكثر فأكثر حتى حدث الاندماج في نهاية المطاف. خلال ثلث الثانية فقط، أدى الاصطدام إلى تحويل كتلة تعادل ضعفي كتلة شمسنا من المادة إلى طاقة.
بدلاً من تحرير الطاقة على شكل ضوء، تسبب الاندماج بتحويلها إلى موجات ثقالية. بعبارة أخرى، تسببت الطاقة بتشوه نسيج الزمكان (الزمان – المكان)، لينتقل هذا التشوه عبر الزمكان مثل موجة تتحرك عبر بركة من الماء.
في 4 يناير، وبعد أن قطعت 3 مليارات سنة ضوئية، وصلت هذه الموجات الثقالية إلى الأرض. تمكنت كواشف ليغو في كل من هانفورد في واشنطن، وليفينغستون في لويزيانا، من التقاط الإشارة، والتي يطلق عليها اسم GW170104. هذا يجعل من الاصطدام الحاصل ثالث ثقب أسود مندمج يرصده ليغو، والأكثر قوة من المرتين السابقتين.
يقول مايكل لاندري من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، رئيس مرصد ليغو في في هانفورد، في مؤتمر صحافي أجراه عن بعد: "إن هذه الأحداث هي الأقوى من نوعها من بين الأحداث الفلكية التي شهدها البشر".
استناداً إلى بيانات الإشارة GW170104، تمكن فريق مكون من أكثر من 1,000 عالم من استخلاص رؤى جديدة عن الثقوب السوداء والمعلومات الخاصة بها. حيث تم نشر عملهم في مجلة Physical Review Letters.
في البداية، يوضح الاندماج كيف كان النظام الثنائي يلتف حول نفسه قبل اندماج جزأيه. ففي هذه الأنظمة، بالإضافة إلى دوران كل جزء فيها حول الآخر، يدور كل ثقب أسود حول محوره الخاص. بالنسبة لعلماء الفيزياء الفلكية، فإن السؤال الذي يبرز هو: هل اتجاه اللف لكل من الثقبين الأسودين هو نفسه أثناء دورانهما حول بعضهما البعض؟ حيث تشير بصمة الموجة الثقالية الصادرة عن عملية الرصد الأخيرة إلى أنهما كذلك بالفعل.
تقول لورا كادوناتي من معهد جورجيا للتكنولوجيا، ونائب المتحدث باسم التعاون العلمي في ليغو، في نفس المؤتمر الذي أقيم عن بعد: "تدعم قياساتنا الجديدة باستخدام ليغو السيناريو الذي يلتف فيه كلا الثقبين الأسودين بنفس اتجاه دورانهما حول بعضهما البعض". وتضيف: "هذا يعني أن اندماجهما يستغرق وقتاً أطول أكثر مما لو كانا يلتفان باتجاهين متعاكسين".
تضيف أنماط التفاف الثقبين الأسودين أحجية جديدة إلى تصورنا عن كيفية تشكل الثقوب السوداء. تقول كادوناتي: "تدعم هذه النتيجة قليلاً النظرية القائلة بأن هذين الثقبين الأسودين الذين تشكلا بشكل منفصل في عنقود نجمي كثيف، قد غاصا باتجاه قلب العنقود، ثم اقترنا معاً بعد ذلك". وتضيف: "وذلك بدلاً من كونهما تشكلا معاً جراء انهيار نجمين كانا مقترنين أساساً".
مع ذلك، نبّهت كادوناتي إلى أن النتيجة لا تثبت بشكل قاطع صحة أي من نظريات تشكل الثقب الأسود. فهي ليست إلا دليلاً سيتطلب الحصول على مزيد من المعلومات التي تدعمه.
لحسن الحظ، يبدو أن بإمكان ليغو الحصول على الكثير من الأدلة الإضافية. فمع هذه الإشارة، تمكن ليغو من العثور على أجرام أخرى من فئة الثقوب السوداء الثقيلة، أجرام تفوق كتلة الواحد منها كتلة شمسنا بما يعادل 25 ضعفاً أو أكثر.
وبالنظر إلى معدل اندماج الثقوب السوداء، قد يتمكن ليغو في نهاية المطاف من التقاط ثقب أسود مندمج جديد كل أسبوع، أو حتى كل يوم. فكلما زادت الإشارات التي يلتقطها، كلما تعلمنا المزيد عن تشكل الثقوب السوداء، فضلاً عن المزيد من التفاصيل حول كيفية انتشار الموجات الثقالية عبر الفضاء. حتى أن بإمكان هذه الأحداث أن تكشف لنا عن أسرار الغرافيتونات، وهي الجسيمات النظرية التي يمكنها أن تكون مصدر الجاذبية.
عندما تنتهي فترته الحالية من عمليات الرصد في أغسطس القادم، يخطط ليغو لترقية أدواته ليزيد حساسيتها ويخفض مستوى الضجيج الذي تتعرض له، ما يمكن العلماء من التقاط أحداث ليس لها صلة بالثقوب السوداء، مثل النجوم النيوترونية المندمجة. وبحلول ذلك الوقت، سيكون مرصد الموجات الثقالي فيرغو قد أصبح قيد الخدمة، فمن المقرر له أن يبدأ بجمع البيانات هذا الصيف.
انطلاقاً من موقعه في إيطاليا، سيتمكن فيرغو من مساعدة مرصدي ليغو على تحديد مصدر إشارات الموجات الثقالية التي يكشفانها بدقة أكبر. قد يقود ذلك إلى التعاون مع تلسكوبات أشعة غاما: فعندما يرصد ليغو إشارة ما، يمكن عندها للمراصد الفضائية أن تدير أدواتها باتجاه مصدر الإشارة لترى إن كان الحدث الذي أطلق موجات ثقالية قد تسبب أيضاً باضطراب المادة المجاورة.
يقول ديفيد شوميكر، الفيزيائي في معهد MIT، والمتحدث باسم التعاون العلمي في ليغو: "إن الأمر الأساسي الذي يمكننا أن نستخلصه من هذا الحدث الذي يسجل للمرة الثالثة، والذي يعتبر موثوقاً إلى درجة كبيرة، هو أننا ننتقل في الحقيقة من مرحلة الاكتشافات المبتكرة إلى مرحلة أصبح فيها لدينا نسخة جديدة من علم الرصد، نسخة جديدة من علم فلك الموجات الثقالية".