في 2008، اندفعت صخرة مليئة بالماسات الصغيرة عبر كيلومترات وكيلومترات من خليط غازي متزايد الكثافة، مؤلف من النيتروجين والأوكسجين وثنائي أوكسيد الكربون، وارتفعت حرارة سطحها مع زيادة السرعة. تمكن أحد التلسكوبات من تتبع حركة هذا الكويكب الذي تحول إلى نيزك إلى أن انفجر بعنف في غلافنا الجوي على ارتفاع 37 كيلومتر، مرسلاً بالبقايا إلى مثواها الأخير في رمال صحراء النوبة في السودان.
كان هذا السقوط والانفجار الحدث الأخير في سلسلة من العذابات التي أصابت هذه الصخرة على مدى حقب كاملة، بدءاً من الضغوط العالية أثناء تشكل كوكب واعد، وصولاً إلى فشل كارثي في تشكل هذا الكوكب، إلى مليارات السنوات من الضياع في أرجاء النظام الشمسي.
نشرت دراسة جديدة في مجلة Nature Communications، تعرض قصة مثيرة لأصل هذا النيزك. يعتقد الباحثون، بناء على المواد الموجودة ضمن الماسات داخل هذا النيزك، أنه قد يكون من بقايا كوكب أو كوكب أولي اندثر منذ زمن، وقد كان في بداياته عندما تدمر نتيجة الفوضى في النظام الشمسي في تلك الفترة.
الماس أفضل صديق للنساء... وأفضل صديق للجيولوجيين أيضاً
في هذه الحالة، لا يعتبر الماس الجزء الأهم من القصة، وهو لا يلعب سوى دور غلاف شديد القوة يحيط بأشياء هامة للغاية. قد يعتقد أخصائيو الجواهر أن وجود حجر داخل ماسة يعتبر عيباً، أما بالنسبة للجيولوجي، فهذا الحجر ثمين للغاية، بل إنه أثمن من الماسة نفسها. ويمكن للماس أن يحفظ قطعاً صغيرة من المواد التي قد تفنى في الظروف الكونية القاسية مع مرور الزمن، وذلك بفضل بنيته البلورية القوية.
كان الباحث فارهانج نابيي، من مدرسة البوليتكنيك الفدرالية في لوزان بسويسرا، يدرس العلاقة ما بين الماس وطبقات الجرافيت التي تحيط به، عندما بدأ يتساءل عن الجيوب الصغيرة من المواد ضمن الماس.
بعد تفحص دقيق، وجد الباحث أن المواد داخل الماس لا يمكن أن تتشكل إلا تحت ضغوط عالية للغاية، أعلى من أي شيء يمكن أن يكون النيزك قد تعرض له مع سقوطه على الرض. لا بد أن هذه الماسات كانت تحمل وزن عالم كامل، بالمعنى الحرفي للكلمة، حيث أن الضغط اللازم لتشكيل هذه المواد، والذي يبلغ 20 جيجا باسكال، كان على الأرجح في أعماق كوكب ما، بحجم يتراوح ما بين عطارد والمريخ.
غير أن هذا الزائر لم يكن من عطارد أو المريخ، بل إنه مصنف على أنه يوريلايت، أي من النيازك الغامضة التي تعتبر جزءاً من كوكب أو كويكب لا يطابق أياً من الأجسام السماوية المسجلة لدى البشر حتى الآن.
يعلم الباحثون أن هذا الجسم السماوي الذي أتى منه النيزك، مهما يكن، قد لاقى حتفه على الأرجح في (حفلة) التدمير التي جرت في بدايات النظام الشمسي، غير أن حجمه لم يتم تحديده حتى وصفت المواد داخل الماسات، ويعتبر حجم هذه الماسات دليلاً آخر على أصلها العميق.
يقول توماس شارب، جيولوجي من جامعة أريزونا لم يشارك في البحث الجديد، ولكنه يدرس النيازك باستخدام نفس تجهيزات المجاهر الإلكترونية: "لا تبدو الماسات بحجم 100 ميكرون كبيرة جداً، بل أقرب لسماكة الشعرة البشرية، ولكنها أكبر بكثير من الماسات الناتجة عن تحول الجرافيت إلى ماس نتيجة الصدمة".
تقول ريبيكا فيشر، عالمة كواكب في جامعة هارفارد لم تكن مشاركة في الدراسة، في بريد إلكتروني: "من القطع المهمة في هذه الأحجية كون الماسات كبيرة الحجم ومقسمة إلى مناطق متمايزة، ما يدعم بقوة فكرة تكونها في أعماق جسم ما، وليس نتيجة صدمة على سبيل المثال". تشير شارب إلى أن أغلبية المواد الموجودة ضمن الماسات، وهي مركبات من الحديد والكبريت مع النيكل والفوسفور، لا تتشكل على الأغلب إلا تحت ضغوط عالية. وتقول: "إن مادة Fe3S، أو كبيريتيد الحديد 3، هي طور كيميائي (حالة مادة كيميائية) مدروس جيداً، ومع المعروف أنه مستقر فقط تحت ضغط يفوق 21 جيجا باسكال. يمكن لإضافة النيكل والفوسفور أن تغير من هذه القيمة، ولكن المؤلفين يقولون أن هذا الأثر لن يكون كبيراً بسبب كمية المواد. يمكن أن يتم التحقق من هذا في دراسات تجريبية مستقبلية. كما سيكون من المثير للاهتمام متابعة دراسة الماسات من اليوريلايت للتحقق مما إذا التقطت أي أطوار أخرى عالية الضغط، ما يمكن أن يدعم تفسيرات الباحثين بقوة".
الكواكب الأولية
تضيف هذه المعلومات المزيد من الأدلة على أن الكواكب الأولية، أو بداءات الكواكب، ظهرت في مرحلة مبكرة من تشكل النظام الشمسي، عندما كانت الأمور أقل استقراراً بكثير مما هي عليه حالياً. كان المشتري وغيره من الكواكب الغازية يكبرون بسرعة، وكانت جاذبية هذه الكواكب، إضافة إلى جاذبية الشمس، تحرك كل ما حولها من الأجسام الأصغر حجماً في جميع الاتجاهات. كانت تلك الأجسام تتشكل بسرعة أيضاً. وتشير دراسات سابقة للنظائر المشعة في النيازك المريخية أن هذا الكوكب تشكل بسرعة، خلال أول مليوني عام تقريباً من عمر النظام الشمسي. تقول مينكاشي وادوا، مدير مركز دراسات النيازك في جامعة أريزونا الحكومية، والتي لم تشارك في الدراسة: "النتيجة هي أن المريخ هو بداءة كوكبية توقفت عن التطور بعدما ظهرت بشكل سريع، ما يقترح وجود أجسام كوكبية من ذلك الحجم تشكلت في وقت مبكر جداً وساهمت في سيناريوهات تشكل الكواكب".
تقول فيشر: "لطالما اقترحت النماذج الحركية وجود الكثير من الأجسام التي تتراوح أحجامها ما بين القمر والمريخ في المنطقة الداخلية من النظام الشمسي في بداية تشكل الكواكب الصخرية، ولكن بشكل عام، يعتقد أنها دخلت في تركيب بعض الكواكب، أو اندثرت، إما عن طريق الشمس أو النبذ إلى خارج النظام الشمسي. إن وجود عينات من أحد هذه الأجسام في اليوريلايت، والذي يعتبر بمثابة سجل للنيازك، يعتبر دليلاً مثيراً للاهتمام".
لا يعرف علماء الكواكب بالضبط في أي منطقة من النظام الشمسي تشكل الكوكب الأساسي الذي انفصلت عنه اليوريلايت، أو كيف دُمّر في نهاية المطاف، ولكنهم يعملون على تحليل عينات جمعت من كافة أنحاء العالم في محاولة لمعرفة المزيد عن هذا الماضي.
تقول وادوا: "كان هناك أصناف أخرى من النيازك التي دُرست، والتي يبدو أنها آتية من جسم أكبر، غير أن الدراسات لم تعطِ نتائج كمية بهذا الشكل". تدرس وادوا التسلسل الزمني للنظام الشمسي في بداياته، وتقيس كيف تشكلت القشرة في مرحلة مبكرة على البداءات الكوكبية (2-4 مليون سنة بعد تشكل النظام الشمسي)، كما تدرس مجموعات بحثية أخرى مرحلة تشكل النوى المعدنية للكواكب الأولى (قبل أن يبلغ عمر النظام الشمسي مليون عام). إن حساب عمر هذه الأجسام مسألة سهلة، أما تقدير أحجامها فهو تحدٍّ مختلف تماماً. تقول وادوا: "يمكنني أن أقول أن هذا التقدير لجسم مندثر من هذا الحجم هو الأدق كمياً، ولهذا فهو مثير للاهتمام".
صدمة للنظام
وفقاً للنماذج الحاسوبية لتشكل النظام الشمسي، فقد تشكلت الكواكب بسرعة. كان نجمنا محاطاً بقرص كبير من الغبار والغازات، وتجمعت الكواكب العملاقة الغازية في دوامات سريعة، وبعد ذلك بفترة قصيرة، بدأت المزيد من الأجسام الصخرية بالتكتل. لا يوجد حالياً سوى أربعة كواكب صخرية في النظام الشمسي، إضافة إلى شرذمة من الأقمار والكويكبات، ولكن في ذلك الوقت، أي في أول عشرة ملايين سنة من عمر نظامنا الشمسي تقريباً، يقول نابيي أنه ربما كان هناك العشرات من البداءات الكوكبية، وكل منها تحاول تجميع ما أمكن من المواد.
كان المكان مكتظاً، وكما هو الحال في أي ازدحام، لا بد من وقوع بعض التصادمات. في بعض الأحيان كانت هذه التصادمات تؤدي إلى تشكل أجسام جديدة، كما في التصادم الذي أدى إلى ظهور قمرنا، ولكن في الكثير من الحالات الأخرى، كانت مدمرة.
تحمل أجزاء النيزك التي عثر عليها في الصحراء بعض الأدلة على هذه العملية المدمرة أيضاً، حيث أن الماسات كبيرة نسبياً بالنسبة لما يوجد عادة في النيازك، بعرض يبلغ حوالي 10 ميكرومتر. ورد وصف الماسات الكبيرة في بحث سابق، غير أن البحث الجديد لنابيي وزملائه يظهر أن هذه الماسات تمثل في حد ذاتها دليلاً على اللعب الخشن بين الكواكب، إضافة إلى كونها كبسولات تحفظ عينات تعود إلى الأيام الأولى من نظامنا الشمسي الذي يبلغ عمره 4.6 مليار سنة.
كانت الماسات محاطة بطبقات من الجرافيت، وهو ليس بالأمر النادر. حيث أن الجرافيت والماس ليسا في الواقع سوى شكلين مختلفين من نفس المادة: الكربون. ولكن بناء على تراصف الماسات، يعتقد نابيي أنها لم تتشكل من الجرافيت المحيط بها. بدلاً من هذا، يبدو أن الماسات تحولت جزئياً إلى جرافيت خلال حدث ضخم وصادم، ومن المرجح أنه نفس الحدث الذي أدى إلى انفصالها عن الجسم الأساسي، الكوكب الأولي البائس الذي لاقى حتفه.
مزيد من النيازك
ما زال هناك الكثير من عينات اليوريلايت التي يجب فحصها واختبارها لمعرفة ما إذا كانت تتوافق مع التصور الذي رسمه لنا هذا البحث حول الكوكب المندثر.
يقول شارب: "ما رأيناه يطرح السؤال التالي: هل سنجد المزيد من هذه الأدلة؟ هل هناك عينات أخرى تحتوي على الماس في داخلها وتحتاج إلى توصيف أدق لمعرفة ما إذا تشكلت ضمن أجسام أكبر، أو كانت ناتجة عن أحداث صادمة؟".
يقول نابيي: "لقد توصلنا إلى هذا التصور بناء على عينة يوريلايت محددة. والآن، نحاول تفحص عينات أخرى في محاولة للتوفيق بين النتائج والتصور الحالي". وعند سؤاله ما إذا كان هذا الموضوع أشبه بأحجية الصور المقطعة، ضحك وأجاب موافقاً: "على الأقل، نعرف الآن أنها أحجية كبيرة".
يتطلع نابيي إلى تقديم عمله، ومناقشة الباحثين الآخرين حول بحثه. ويقول أنه كان ينوي مناقشة بحثه في لقاء للاتحاد الأميركي الجيوفيزيائي في ديسمبر المنصرم: "كنت متحمساً للحديث عن عملي مع المشاركين والعلماء هناك، ولكن لم تتح لي الفرصة للأسف". لم يتمكن نابيي من حضور اللقاء بسبب إشكالات أعاقت سفره، ولكنه يتابع: "على الرغم من أنني لم أتمكن من تقديم عملي في الولايات المتحدة، فسوف أقدمه في باريس".
سيتابع نابيي بحثه في سويسرا، معتمداً على شذرات صغيرة في محاولة لملء فراغات كبيرة في تاريخ نظامنا الشمسي. ويقول: "نحن نتفحص عينات من الماس الحاوي على المواد بحجم عشرات النانومتر، ومن ثم نتوصل إلى استنتاجات حول كواكب يبلغ قطرها آلاف الكيلومترات. إننا نعمل على أبعاد شديدة التطرف، سواء في الصغر أو الضخامة. لم أتخيل يوماً أن العمل على المجهر سيقدم نتائج هامة حول تشكل الكواكب. إن هذا العمل أشبه باختبار قاس لحدود رؤيتنا".
تحديث: ورد في النص الأصلي للمقالة خطأ في الصياغة حول تقديرات تشكّل القشرات ونوى البداءات الكوكبية. وتشير التقديرات إلى أن هذه العملية حصلت بعد تشكل النظام الشمسي بفترة 2-4 مليون عام، وليس منذ 2-4 مليون عام. نأسف لهذا الخطأ.