لولا وجود المياه على الأرض لَمَا ظهرت الحياة عليها، ولَمَا أصبحنا أظرف كائنات ذكية في الكون (على الأقل حتى الآن). غير أن طريقة ظهور المياه على هذا الكوكب بالضبط ما زالت لغزاً عصياً على الحل، حيث لم تظهر الأرض فجأةً من العدم وهي مغطاة بالمحيطات، بل توجد قصة كاملة وراء ظهور الماء، ولكن العلماء لم يتفقوا حتى الآن على محتوى هذه القصة.
في بحث جديد نُشر في مجلة Journal of Geophysical Research: Planets، يقترح باحثون من جامعة أريزونا الحكومية أن المياه على الأرض تولَّدت من مواد جلبتها الكويكبات، إضافة إلى بعض الغازات المتفرقة المتبقية من تشكل الشمس.
ولا شك في أن هذا التفسير بعيد للغاية عن أول تفسير يقترح أن الماء الذي نعرفه (ونشربه) آتٍ من الفضاء الخارجي. وقد كان أسهل تفسير أن جميع مياه الأرض أتت من الكويكبات التي اصطدمت بها في بدايات عمرها الذي يبلغ حوالي 4.6 مليار سنة، والدليل على هذا التفسير هو أن المياه على الأرض تتشارك في نفس المميزات الكيميائية مع المياه الموجودة في الكويكبات، خصوصاً نسبة الديوتيريوم (أحد النظائر الثقيلة للهيدروجين) إلى الهيدروجين العادي. كما بيَّنت تجارب سابقة أن من المحتمل أن الماء قد تمكن من الحفاظ على نفسه عند الوصول إلى هذا الكوكب الذي سيضج بالحياة لاحقاً، على الرغم من كل الحرارة والطاقة الناتجة عن هذه التصادمات الهائلة والشديدة.
وعلى الرغم من هذا، لم تتمكن هذه النظريات قط من الإجابة عن بعض التساؤلات الأخرى حول أصل الماء؛ حيث إن الهيدروجين الموجود في محيطات الأرض ليس بالضرورة نفس النوع من الهيدروجين الموجود في بقية أنحاء الكوكب، فقد تبيَّن أن العينات الأقرب إلى نواة الأرض تتميز بنِسَبٍ شديدة الانخفاض من الديوتيريوم، مما يبدو أنه يشير إلى أن هذا الهيدروجين لم يأتِ من ضربات الكويكبات.
يقول ستيفن ديش (باحث في جامعة أريزونا الحكومية، ومؤلف مشارك في الدراسة الجديدة): "على الرغم من أن العديد من النماذج ترجح وجود الهيدروجين في النواة، إلا أن أياً منها لم يشر إلى مدى تأثير هذا الهيدروجين في تغيير نسبة نظائر الهيدروجين (أي الديوتيريوم مقابل الهيدروجين العادي) في الوشاح. إذن فلا بد من أن الأرض بدأت تتشكل بوجود مصدر إضافي من الهيدروجين يتمتع بنسبة ديوتيريوم - هيدروجين أقل مما في الكويكبات. والمصدر الوحيد الممكن هو السديم الغازي الشمسي".
وقد بدأت المجموعة بالتعامل مع هذه الفكرة بمزيد من الجدية، وذلك بفضل أبحاث حديثة بدأت تبيِّن إمكانية وجود الكواكب الأولية في نفس الوقت مع السديم الغازي الشمسي (الذي اعتقدنا أنه اختفى بسرعة قبل بدء تشكل الكواكب)، مما زاد من احتمال دخول الهيدروجين في تركيب أعماق الكوكب المتنامي.
وفي نهاية المطاف، استخدم الباحثون الهيكلية الجديدة التي طوروها للتوصل إلى السيناريو الأكثر احتمالاً لتاريخ الماء على الأرض، فقد بدأت الكويكبات التي تحمل الكثير من المياه بالتكتل على بعضها منذ مليارات السنوات أثناء وجود سديم غازي حول الشمس. وشكَّلت هذه الكويكبات ما نسميه بداءة كوكبية، ونتيجة التصادم والاندماج والتحطم، تولدت طاقة كافية لتشكيل طبقة من الحمم على سطح البداءة الكوكبية.
وفي نفس الوقت، بدأ السديم الغازي الشمسي (الذي يحتوي على الهيدروجين وغيره من العناصر الغازية النبيلة) يتفاعل مع الحمم لتشكيل الغلاف الجوي؛ فقد انحل الهيدروجين من السديم الشمسي في الحديد ضمن طبقة الحمم، حيث كانت تجري عملية كيميائية تسمى بالتجزئة النظيرية، التي عملت على سحب الهيدروجين الطبيعي نحو نواة البداءة الكوكبية أكثر فأكثر، في حين بقي الديوتيريوم الأثقل (والأكثر ندرة) في طبقة الوشاح. وتعرَّضت هذه البداءة المتنامية لضربات بداءات أصغر حجماً مكونة من كويكبات أخرى مليئة بالماء أيضاً، إلى أن ظهرت الأرض بحجمها الكامل في النظام الشمسي، غنية بالماء كما نعرفها ونحبها.
ويؤكد هذا التاريخ بمجمله أن معظم مياه الأرض أتت من مصادر كويكبية، ولكنه يقول أيضاً إن نسبة ضئيلة (0.1% إلى 0.2%) من المحيطات على الأرض تشكَّلت من الهيدروجين الذي أتى من السديم الغازي الشمسي.
إضافة إلى هذا، قام الباحثون باستخدام النموذج لتوقع نتيجة أخرى، وهي أنه يوجد ما يكفي من الهيدروجين على الأرض لتشكيل ما يقارب ثمانية محيطات من الماء: كمية هيدروجين على السطح كافية لمحيط واحد، وكمية في الوشاح كافية لاثنين، وما يكفي لخمسة محيطات في نواة الأرض.
وفي المحصلة، فإن أكبر مشكلة تعاني منها هذه النتائج هي أنها قائمة على النماذج، ولا توجد وسيلة حقيقية لإثبات أي منها.
ولكن هناك بعض الأشياء التي يستطيع العلماء فعلها لاختبار بعض الاحتمالات التي تقدمها هذه النظرية الجديدة، فليس لدينا أية فكرة عن عملية التجزئة النظيرية في الأعماق والضغوط التي كانت موجودة في بداءة الأرض، ولكن الفريق يخطِّط للانتقال إلى تجارب مخبرية يمكن أن تكشف عن بعض ميزات هذه العملية بتفاصيل دقيقة، بحيث يصبح النموذج أكثر دقة وأفضل تعبيراً عما حدث بالفعل. كما يتطلع الفريق إلى جمع وتحليل المزيد من عينات الوشاح التي تتمتع بنسبة ديوتيريوم - هيدروجين منخفضة للغاية، وهو ما يمكن أن يدعم هذه النظرية.
وتقدم هذه النظرية أيضاً بعض النتائج الهامة حول صلاحية العوالم الأخرى للسكن. يقول ديش: "قد تتواجد المياه حتى في الكواكب التي تتشكل بعيداً عن مصادر الكويكبات الغنية بالمياه، ربما لا تكون زاخرة بالماء مثل الأرض، ولكن هناك على الأقل حد أدنى من الهيدروجين بمقدار 0.1 إلى 0.2 محيط". ويمكن تطبيق هذه النظرية على الزهرة والكثير من الكواكب الخارجية، وفقاً لديش، حيث قال: "يدعم النموذج عند تأكيده فكرة النمو الكوكبي السريع"، وهو ما يمكن أن يثير حماستنا حول ظهور الكواكب الصالحة للسكن بشكل أسرع بكثير مما كنا نظن، كما يقول ديش: "سيغير هذا من طريقة فهمنا للكواكب".
وإن ديفيد أوبراين (وهو باحث في معهد علوم الكواكب في توكسون بأريزونا، ولم يشارك في هذه الدراسة) يعتقد أن النموذج الجديد مثير للاهتمام إلى حد كبير؛ لأنه يتضمن عدة آليات مختلفة للماء، ويقول: "كانت معظم النماذج السابقة تنظر إلى هذه الآليات المختلفة بشكل منعزل، وتحاول أن تبرهن كيف يمكن لكل منها على حدة أن تفسر وجود كامل كمية المياه على الأرض. أما هذه الدراسة الجديدة فتنظر إليها بشكل شامل، وتبين أنها قد تكون ذات أثر جماعي، كما أن النتيجة النهائية متوافقة مع القيم المَقيسة لنسب الديوتيريوم – الهيدروجين ووفرة الغازات النبيلة على الأرض". صحيح أن النموذج الجديد لم يؤدِّ إلى تغيير جذري في معلوماتنا حول أصل الماء على الأرض، ولكن أوبراين يعتقد أنه يمثل عرضاً جيداً لتعقيد هذه العمليات وتعدد وجوهها.
وعلى الأقل، فإن هذه الدراسة الجديدة تعتبر تذكيراً جيداً بوجود صخور تسبح في الفضاء وهي تحمل -على الأرجح- كميات كبيرة من الماء، وقد تصبح هدفاً ممتازاً لعمليات تعدين وتنقيب كثيرة في المستقبل.