منذ حوالي ملياري سنة، التهمت مجرة درب التبانة كرة تتألف من حوالي مليون نجم حتى مزقتها بفعل جاذبيتها، وحولتها إلى تشكيل اسمه «نهر نجمي» يبلغ طوله 27000 سنة ضوئية. والآن، يشير بحث جديد حول بقايا هذه الكتلة أنها لم تولد في منطقة قريبة من مجرتنا، وأن أصولها الفريدة قد تساعدنا في فهم المراحل المبكرة من تشكّل درب التبانة.
هذا التجمع غير العادي من النجوم المسمى «تيار العنقاء» -نسبة للكوكبة الموجود فيها- هو ما يدعى بالتيّار النجمي: وهي سلسلة مستطيلة من النجوم التي كانت تشكل عنقوداً كروياً، وهو سرب كثيف من النجوم القديمة.
هناك حوالي 150 عنقوداً كروياً معروفاً في أطراف مجرة درب التبانة، وهي مساحات باردة ومتفرقة من الفضاء. لكن عندما فحص الباحثون التركيب الكيميائي لعشرات النجوم العملاقة الحمراء الساطعة داخل تيار العنقاء، لاحظوا أمراً غريباً: كان لهذه النجوم «معدنيّة» منخفضة بشكلٍ غير عادي، مما يعني احتوائها على عناصر أثقل من الهيدروجين والهيليوم.
وفقاً لـ «تينج لي»، وهو فلكي في مرصد «كارنيجي» في ولاية باسادينا، ومؤلف مشارك في الدراسة الحديثة التي نُشرت في 29 يوليو/ تموز 2020 في دورية «نيتشر»: يقدّر الفلكيون أن العناقيد النجمية يجب أن تمتلك ما يدعى بـ «الحد الأدنى من المعدنيّة»، والذي يعني أن هذه العناقيد لا يمكن أن تتشكل إلا بوجود كميات محددة من المعادن. وهنا تكمن الفكرة: وجد الباحثون أن معدنيّة نجوم تيار العنقاء تساوي 0.3 - 0.4% من معدنية الشمس، وهذا أقل من الحد الأدنى بكثير. نظرياً، لا يجب أن يكون هذا التيار موجوداً، إذا فلماذا هو موجود؟
يقول «جيرانت لويس»، فلكي في جامعة سيدني، وأحد مؤلفي الدراسة: «تشير [المعدنية المنخفضة] إلى أن هذه النجوم تشكلت في أوقات وأماكن مختلفة عن كل العناقيد التي نرصدها اليوم». يمثل تيار العنقاء جيلاً سابقاً من العناقيد الكروية، كما يضيف لويس: ستنفصل نجوم هذا التيار في النهاية وتختلط مع باقي النجوم في مجرتنا.
لاكتشاف أصل تيار العنقاء، استخدم طالب الدكتوراه «زين وان» من جامعة سيدني بجانب فريق دولي تلسكوب «ذا آنجلو-أستراليان» كجزء من مشروع «المسح الطيفي للتيار النجمي الجنوبي»، والذي يهدف إلى إيجاد ومسح التيارات النجمية في درب التبانة. هذه التيارات النجمية ضرورية بشكلٍ خاص لما يدعوه الفلكيون بـ «علم الآثار النجمي»، الذي يبحث في تفاصيل المراحل المبكرة من تشكل مجرتنا.
نمت مجرة درب التبانة عن طريق التهام الأشياء. عندما تقترب كتلة كثيفة من النجوم إلى درب التبانة، فإن جاذبية هذه الأخيرة تسحبها باتجاهها. وبعد انتهاء الاندماج، كما يقول لويس، تبقى بعض آثار الكتلة المُلتَهمة على شكل تيارات تتحرك ضمن درب التبانة، وهي عينة صغيرة من النجوم التي أتت من عناقيد نجمية اختفت من قديم الزمان. يمكن أن يكون تيار العنقاء تشكل بهذه الطريقة.
مع ذلك، ما تزال عملية تشكل العناقيد النجمية غير معروفة. وفقاً للويس، يشير فهمنا الحالي إلى أنه في الكون المبكر؛ انهارت سحابات من الغاز على بعضها مُشعِلة مليون نجم دفعة واحدة. لكن النتائج الجديدة تتعارض مع هذا الكلام، وتشير إلى أن العناقيد النجمية ظهرت حتى عندما كانت نسب العناصر الثقيلة أقل بكثير في الكون. يقول لويس: «ما نراه هنا يعني أنه لم تتشكل كل النجوم في الوقت أو المكان نفسه، يبدو أنه كان هناك جيلاً سابقاً منها».
تقول «آنا بوناكا»، باحثة في مركز «هارفارد سميثسونيان» للفيزياء الفلكية، وغير مشاركة في الدراسة الجديدة: «أتمنى أن تمثل النتائج الجديدة بداية لشيء أكبر، قد يكون هناك المزيد من الإشارات التي أتت من الكون المبكر ضمن عشرات التيارات النجمية المشابهة ضمن مجرتنا».
بدأ الباحثون بالبحث عن تيارات مشابهة لتيار العنقاء، ويأملوا أن تتمكن المراصد الفضائية المتطورة -مثل مركبة «جايا» الخاصة بوكالة الفضاء الأوروبية، أو تلسكوب «جيمس ويب» المنتظر-؛ من اكتشاف المزيد من النجوم منخفضة المعدنية التي شهدت تاريخ مجرتنا العنيف.
يقول لويس: «برصد التيارات الأخرى، يمكننا استنتاج كمية النجوم التي التهمتها مجرتنا ومواقع التهامها أيضاً، عندها سنصبح قادرين على تشكيل صورة كاملة لكيفية تشكل مجرتنا».