بلدة سان بيدرو دي أتاكاما: إن زيارة مصفوفة أتاكاما العملاقة المليمترية/ تحت المليمترية (تعرف اختصاراً بالاسم ألما) ليست لضعاف القلوب. فبعد قيادة السيارة نحو الهضبة الجرداء للقاء دليلي دانيلو فيدال – وهو منسق الزيارات في ألما – كانت المحطة الأولى عبارة عن فحص صحي. وكان عليّ أن أثبت أنّ نبضي ليس أسرع أو أبطأ من اللازم، وأن مستوى الأكسجة (إشباع الأوكسجين) في دمي كان على الأقل 80% (حققت نسبة 96% في آخر فحص طبي على مستوى سطح البحر)، وذلك لمجرد إمضاء بضع ساعات في منشأة دعم العمليات، حيث يقيم طاقم ألما ويعمل على حل ألغاز الكون.
غير أن هذه البيئة القاسية لم تمنع حوالي عشرين بلداً من التعاون لبناء الأداة الفلكية الأكثر طموحاً على وجه الأرض. فليس من السهل مزامنة عمل 66 من أحدث الهوائيات في منشأة تقع على ارتفاع مخيم على قاعدة جبل إيفرست، وهي مهمة جبارة تتطلب عمل المئات من المهندسين وغيرهم بدقة عسكرية.
وصلت منشأة ألما إلى مرحلة التشغيل الكامل بعد عقود من البناء وست سنوات من التحديثات، وأصبحت جاهزة لتكريس أغلب قدراتها لأحد أهدافها الأساسية: مراقبة التوهج الحراري للغبار الذي يدور حول النجوم اليافعة. وقد بدأت عمليات الرصد لألما بضخ عناصر جديدة في قصة تشكّل هذه الأنظمة، وتحولها من سحب من الغبار إلى عائلات من الكواكب، وهي أيضاً قصة تشكّل الأرض ضمن النظام الشمسي.
تمكنت من متابعة طريقي بعد أن تبين أن نسبة الأكسجة لدي تساوي 91%، على الرغم من أن فيدال أعطاني أسطوانة أوكسجين للاستخدام لمرة واحدة، تحسباً للطوارئ. بعد ذلك، صعدنا في سيارته رباعية الدفع، وقام بوصل أنبوب التنفس الخاص به بخزاني أوكسجين ضخمين تنفيذاً للقواعد الناظمة، كما قال لي، وبدأنا بصعود هضبة تشاجنانتور، عابرين بالقرب من نباتات الصبار وغزلان الفيكونا ملتزمين بحدود السرعة التي لا تتجاوز 32 كيلومتر في الساعة.
على الرغم من أن أعيننا تفضل ألوان قوس قزح المرئية، فإن الكون مليء بأنواع أخرى كثيرة من الضوء. تصدر النجوم أثناء التهابها جميع أنواع الضوء من الطيف المرئي وما بعده، وتصدر الثقوب السوداء الأشعة السينية والأمواج الراديوية، كما تطلق الانفجارات النجمية مختلف أنواع الإشعاعات. ولا يمكننا أن نحصل على صورة كاملة للكون من دون أن ننظر إلى جميع هذه "الألوان" المختلفة.
يركز مرصد ألما على الأطوال الموجية الضوئية التي تساوي حوالي المليمتر، ويلعب دور أعظم منظار ليلي في العالم. تصدر الأجسام أنواعاً مختلفة من الضوء وفق درجة حرارتها، وتقوم هوائيات المرصد بالتقاط الأجسام التي ليست حارة بما يكفي لتشع مثل النجوم. وبالنسبة للمرصد، فإن الغبار معتدل الحرارة يشع بشكل ساطع مقابل لوحة خلفية من الفضاء البارد، كما تشع الأجسام الدافئة بالنسبة للكاميرات الحرارية. وفي الواقع، فإن ألما غير قادر على التقاط أي جزء من الضوء المرئي، وهو ما يسمح له بمراقبة السماء ليل نهار.
تعتبر قصة الغبار بحق أساس قصة أي شيء نراه، ولهذا تعاونت المؤسسات والجمعيات الفلكية في أميركا الشمالية وآسيا وأوروبا مع الحكومة التشيلية، وأنفقت 1.5 مليار دولار لبناء مرصد على قمة أكثر الجبال جفافاً في العالم. تتجمع سحب الهيدروجين في الفضاء وتنهار على نفسها مشكلة النجوم، وتترك أقراصاً من بقايا الغبار التي تتحول إلى دوامات تؤول في نهاية المطاف إلى كواكب وكويكبات ومذنبات، تشكل بمجموعها النظام الشمسي. يمكننا أن ندرس جوارنا الكوني عن كثب، ولكن الباحثين يتوقون إلى أمثلة أكثر تنوعاً وأصغر عمراً حتى يتمكنوا من تفريق الأنماط عن الصدف.
يمكن أن تقدم النماذج الحاسوبية الكثير في هذا المجال، ولكن لا بديل عن الصور التي تلتقط عمليات تشكل الكواكب بشكل مباشر. كانت المراصد المليمترية السابقة عاجزة عن أداء عمل على هذا المستوى، ولكن من هذه الناحية، يعتبر مرصد ألما شيئاً مختلفاً تماماً. يقول شون آندروز، وهو باحث في مركز هارفارد – سميثسونيان للفيزياء الفلكية: "من النادر أن نشهد قفزة نوعية كهذه. إنها أشبه بالانتقال من تلسكوب محمول باليد إلى التلسكوب الفضائي هابل".
في أعلى الهضبة، تمكنت على الفور من رؤية مصدر التكاليف الباهظة لألما. فعلى الرغم من عدم وجود ورقة عشب واحدة يمكن الاعتماد عليها للمقارنة، بدا موقع عمليات المصفوفة ضخماً وممتداً على مساحة شاسعة. ولكن قبل أن تتاح لي رؤية الهوائيات عن كثب، كان لا بد من فحص طبي آخر. ودخلنا إلى ما وصفه فيدال بأنه أعلى مبنى تقني في العالم (من حيث ارتفاع موقعه فوق سطح البحر)، وقد أصبح كذلك بعد إغلاق إحدى محطات القطار في نيبال العام الماضي، وتمكنت من متابعة الجولة بعد أن نجحت بالكاد في الفحص الطبي، بوجود هامش أكسجة لا يتعدى 3% فوق الحد المطلوب.
[فيديو]
ليس مرصد ألما تلسكوباً، بل مقياس تداخل، ويوزع عملياته ما بين 66 طبقاً لاقطاً كبيراً تمتد على منطقة أكبر من أي نظام منفرد، بعرض أكثر من 1.6 كيلومتر (هذا حجم المنطقة التي زرتها على الأقل). أما الهوائيات التي يبلغ وزن كل منها 100 طن فهي قابلة للنقل، وهي مهمة تقع على عاتق رافعتين شوكيتين هائلتين، أطلق عليهما العاملون اسم أوتو ولوري، وتقومان يومياً بتحريك هوائيين في رقصة متواصلة، يمكن أن تؤدي على مدى شهرين إلى توسيع منطقة المصفوفة لتبلغ حجماً غير مسبوق بعرض 16 كيلومتر. وعن طريق التحكم بمساحة توزع الهوائيات، يستطيع الفلكيون تقليد وظيفة التركيز في كاميرا الهاتف الخليوي، وإعطاء الأولوية لأي تفصيل أو امتداد كوني. ولكن يجب أن يحرصوا على أن تبقى الأطباق مزودة بالكهرباء على الدوام، حتى على متن الروافع الشوكية المزودة بأنظمة بطاريات تقدم الكهرباء للأطباق المحمولة، وإذا انقطع التيار الكهربائي وارتفعت حرارة التجهيزات الداخلية كثيراً فوق حرارة العمل البالغة 268 درجة مئوية تحت الصفر، سيجد سائق الرافعة نفسه ينقل كتلة خردة يبلغ ثمنها عدة ملايين من الدولارات.
من حسن الحظ، لم يحصل هذا بعد. وبعد أن وصل المرصد إلى كامل استطاعته، أصبح قادراً على تشكيل صور أكثر دقة بعشرة أضعاف من صوره أثناء بداية عمله في 2011، وهي دقة تسمح للفلكيين أكثر فأكثر بالتقاط أصغر التفاصيل حول تشكل الكواكب.
تعتمد الخطوة الأولى في رحلة ذرة الغبار من "الغمامة الرملية المنتفخة" إلى كوكب كامل المواصفات على مقدار تواصلها مع جيرانها كما يحدث على القرص الغباري بشكل عام، وذلك وفقاً لكارين أوبيرج التي تترأس مجموعة الكيمياء الفلكية في هارفارد، وواحدة من خمسة ممثلين عن أميركا الشمالية في مجلس إدارة ألما. تشير التجارب المخبرية إلى أن البذرة الكوكبية تبدأ بكتلة دبقة تكتسب غلافاً جليدياً نتيجة الارتطام بالأوكسجين والهيدروجين. ليس من السهل التقاط عناصر كيميائية محددة على مسافة تساوي مئات السنوات الضوئية، ولكن ألما تمكن من التقاط سكر وكحول في أعماق الفضاء.
كان من المستحيل من الناحية النظرية أن تتجاوز تلك الكتل حجم أرانب غبارية متجمدة، على الرغم من أن الأدلة العملية التي لدينا تشير إلى عكس ذلك، فقد توقعت النماذج أن القوى الناتجة عن الدوران ضمن القرص يجب أن تمزق الكتل الغبارية قبل أن تتجاوز في حجمها حبة الأرز، ما لم تكن هذه الدقائق تتجمع في مناطق خاصة أكثر كثافة.
قام فريق بقيادة الفلكية الفيزيائية نينكي فان دير ماريل من معهد إن أر سي هيرزبيرج للفيزياء الفلكية في فيكتوريا، كندا، بالتقاط أولى الصور المباشرة لهذه "الفخاخ الغبارية" عندما كانوا في جامعة ليدين في هولندا في 2013، ما أكد نتائج عقود كاملة من النمذجة والمحاكاة. وتستذكر فان دير ماريل قائلة: "كان الباحثون الذين يجرون محاكاة العمليات ضمن الأقراص يعملون بشكل شبه مستقل عن الراصدين. وبعد أن ابتعدت النظريات عن الملاحظات الرصدية، أعاد ألما الربط بينها من جديد".
أما الآن، وبعد أن تمكن المرصد من التقاط بيانات جديدة، أصبح باحثو المحاكاة مضطرين لمجاراته. فعندما قام ألما بتوجيه أطباقه نحو هل تاو، وهو نجم يافع محاط بسحابة غبارية حلقية على بعد 450 سنة ضوئية من الأرض، كان من المفترض أن يرى قرصاً أملس الشكل. فقد فكر الباحثون بأن الكواكب تتطلب ملايين السنوات حتى تتكتل، ولم يكن هذا النظام حتى بعشر هذا العمر. ولكن عندما وصلت الصور في 2014، أظهرت قرصاً أحمر متوهجاً مقسوماً بعدة أخاديد واضحة، وهي دلالات ترجح وجود بداءات كواكب تلتقط الغبار أثناء دورانها حول النجم. والآن، سينشر آندروز قريباً نتائج بحث أشرف عليه لمسح 20 قرصاً مشابهاً، وتؤكد هذه النتائج أن وضع نجم هل تاو هو أقرب إلى القاعدة منه إلى الاستثناء. وكيفما كانت طريقة تشكل الكواكب، فإن ألما يؤكد أن هذا يحدث في كل مكان، وبسرعة.
بعد العودة إلى منشأة دعم العمليات على وسط سفح الهضبة، رأيت مع فيدال مخرجين إيطاليين يتجولان في الردهات بعد أن فشلا في تجاوز الفحص الطبي. وكان أمامهما ساعتا انتظار قبل الفرصة الثانية –والأخيرة – لاجتياز الفحص. وتوقع فيدال أنهما تجاوزا التعليمات واستسلما لإغراء تناول القهوة على الفطور.
بعد أن أصبح بإمكاننا تناول الكافيين بأمان، شربنا الشاي مع ماتياس راديش، وهو محلل بيانات كثيف اللحية من سانتياجو، والبطل المجهول لهذه العملية. وتتلخص مهمة راديش في مواجهة العدو الأساسي للمنشأة: الرطوبة. فحتى في هذه الصحراء القاحلة، التي لم تشهد بعض مناطقها أية أمطار منذ أيام إسحق نيوتن، توجد آثار من بخار الماء في الهواء، ويقوم راديش بتعديل الهوائيات حتى تتكيف مع الرطوبة في الزمن الحقيقي. كما يشترك أيضاً في مناوبات الإشراف الفلكي، حيث يختار عمليات الرصد التي يجب تنفيذها من مجموعة انتظار تحوي المئات منها.
ما بين الارتفاع وجدول العمل المليء بالمناوبات الليلية، تعود مهندسو ألما على النعاس المضني، غير أن راديش يعتبر أن المشاركة في كشف أسرار نشأة الأرض كافية للتعويض عن السهر الطويل والابتعاد عن عائلته لنوبات العمل التي تدوم أسبوعاً يمضيه في المنشأة، ويقول: "إن الشيء الذي يحفزني على العمل هو أنني في قلب الحدث. تشبه الأرض واحة في وسط الكون، ويمكنك أن تفهم بهذا العمل قيمة الإنسانية ومدى حساسية الحياة".
عندما أرسلني فيدال في طريق العودة نحو بلدة سان بيدرو، وهي الواحة المحلية لصحراء أتاكاما، كانت الشمس توشك على المغيب مع دخول تشيلي منطقة الظلام بعيداً عن أشعتها. ركبت سيارتي المستأجرة وهبطت سفح الجبل، مع سحابة رقيقة من الغبار تدور خلفي.